جدليّة التحول الى التعلم الرقمي في زمن «كورونا»
فيصل تايه
27-09-2020 12:49 PM
بما هو فائض من الحديث او القول ان أمر تحولنا الى التعليم الرقمي ليس تحولاً اختيارياً بمحض ارادتنا ، أو حتى تفاخراً تقنياً نتفاخر ونتماهى به ، أو حتى على سبيل التجربة العملية ، فنحن في عصر التحول الرقمي الاجباري في التعليم ، ومضطرين ان نقف وجهاً لوجه أمام منظومة "التعليم عن بعد" لنشهر كافة أدواتنا المجربة والموثقة في وجه حالة استثنائية فرضتها جائحة عالمية تحولت من شبح يلوح في الأفق إلى واقع يفرض نفسه ، ليضع نظامنا التعليمي في محك صعب بين نجاحات وإخفاقات وفجوات رقمية في محاولات ملزمة لتوديع التعليم التقليدي بمكوناته الكلاسيكية المعروفة ، وليشهد ميلاداً قوياً لنظام تعليمي رقمي تقني حديث وباعتماد عالم افتراضي غير معهود .
هول الأزمة كشفت عن وجه التكنولوجيا التي نمتلكها ، والتي يمكن ان تمكننا من التفاعل مع العملية التعليمية بالتحول المفروض بأمر "الجائحة" ، والتي تعتبر فرصة حقيقية تُحفّز الدولة على مزيد من الاستثمار في هذا القطاع ، وربما يدفعنا ذلك لاكتشاف تقنيات جديدة في النظام التعليمي ترافقها خطوات عملية جادة باستخدام الحديث من التكنولوجيا ، وهذا يتطلب تدخلا قوياً من وزارة الاقتصاد الرقمي والريادة ، لكننا وما بين عزوف وتعثر ونجاح نسبي وهوات اجتماعية ورقمية وعقبات نفسية وفوضى الصف الافتراضي فان "التعلم عن بعد " لا يمكن أن يكون وليد أيام ولا حتى عدة شهور ، لأنه نظام تعليمي عصري متطور لا يأتي الا نتيجة استثمار طويل ومستمر في مجال تكنولوجيا الإعلام والاتصال في التربية ، وليس ذلك شعاراً يُرفع في المناسبات والأزمات ، وهذا يحتاج بالضرورة إلى بنية تحتية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات وأنظمتها وما هو متعلق بها ، بما في ذلك البرامج والأجهزة وتأمين الشبكات والمواقع وغيرها ، وهو ما تفتقد جزء منه معظم المؤسسات التعليمية ، فالتعلم عن بعد أتى نتيجة تراكم تجارب عديدة في مجال تكنولوجيا التعليم على مدار سنوات ، وتسلسل تطور الفكرة ، لذلك فإن التحول الفجائي إلى نظام التعلم عن بعد ليس بالامر السهل .
إن مشكلتنا ان الجميع يريد الانخراط في عملية التحوّل الرقمي سريعاً بدون أي تحضير ، ودون التركيز على الحلول الممكنة والسريعة والقابلة للتنفيذ بحسب الظروف وبما يتواءم مع الوضعيّة التي تنطبق على واقعنا حالياً ، دون مناقشة إمكانيّة تقديم حلول رقميّة يمكن أن تعوّض الفاقد التعليمي لدى أبنائنا الطلبة ، لذلك فكل ما يطرحه البعض يتمحور حول معوّقات هذا النوع من الخيارات وجدواه الصحيح بالمبدأ ، متناسين ان ما قدمته الجهات المعنية بما فيها وزارة التربية والتعليم افضل الممكن في الظروف الراهنة وضمن امكاناتنا المتواضعة .
انني وانا اتحدث عن التعليم الإلكتروني كخبير في التعليم التقني الالكتروني وبعد اطلاعي على التجربة الاوروبية في هذا المجال خاصة في المانيا والنمسا ، وفي السياق المتصل ، فلا بد ان نتحدث عملياً عن موضوعين مهمين وهما : موضوع انتاج المحتوى الرقمي ، وموضوع امكانية الاتصال بالطلاب لتزويدهم بالمحتوى الرقمي التعليمي والتفاعل معهم ، فالمحتوى الرقمي يجب ان يتألف عادة من أربعة عناصر وهي : النصوص والصور والأصوات والفيديو ، حيث ان لكل منها توظيف تعليمي مختلف ، رغم استحواذ الفيديو التعليمي على باقي العناصر لا سيّما في مجال التعليم عن بعد ، حيث هناك العديد من أنواع الفيديو التي يمكن الاستفادة منها في التعليم ، ويمكن أن ينتجها المعلمون وتقودنا الى تأدية الغرض المطلوب ، فضلًا عن المواد الرقمية المحترفة التي تنتجها شركات تصميم التعليم ، لكني وعند اطلاعي على المادة التعليمية في منصة "درسك " لاحظت افتقار الكثير من المواد الدراسية الى تصميم الدروس التعليميه الكترونياً والتي تدعم بمادة تفاعليه نشطة يستطيع الطالب التفاعل معها بطريقة مباشرة بعيدا عن اسلوب التلقين ، او التصوير المباشر ، حيث ان المحتوى الرقمي التفاعلي لكل مادة يحتاج الى مؤلفين الكترونيين متخصصين كما هو الحال في تاليف الكتب المدرسيه المكتوبه والمطبوعة ، وهذا يحتاج الى خبراء في هذا النوع من التاليف لكل مادة دراسية بحيث يستطيع المؤلف تصميم الدرس وفق قدرات ومهارات عاليه يستفيد منها الطالب ويتفاعل معها بصورة مباشرة ، وكذلك تحتاج الى عمليات مونتاج احترافية تستطيع استخدام ادوات تفاعليه والتحكم بها وفق متطلبات الدرس ، وبما يفي بالغرض ، فكل ذلك يحتاج الى مهارات عالية المستوى وهي تلك المهارات المتعلقة بمهارات بالقرن الحادي والعشرين ، ولعلي اعرف الكثير من الاخوة المشرفين التربويين والمعلمين الذين يمتلكون تلك المعارف والمهارات ولكنهم تقيدوا بشروط الجهات المسؤولة عن عمليات الانتاج والمونتاج والتي اعتقد ان وزارة التربية والتعليم لم توفق في اختيارها لانها تحتاج الى جهات تربوية متخصصة في هذا النوع من العمل "الالكتروني" وتعي تماما حجم العمل ومتطلباته واحتياجاته وطريقة تنفيذه بشكل يرقى الى المستوى المطلوب ، وهذا بالفعل ما نقص لبعض المواد التعليمية التي عرضت على منصة درسك .
دعوني اعترف ان ما يتطلبه التعليم الالكتروني بكل أشكالة وأنواعة هي خبرات تراكمية طويلة الأمد يبنى عليها ، اضافة الى انها حصيلة تجارب عديدة لهذا النوع من التعليم على مدار عدة سنوات على غير ما يعرض حالياً من مواد تعليمية هدفها التمكين التعلمي الطارئ في محاولات للطرح الفرضي على المعلّمين والمديرين والكادر التربوي عمومًا بما اسميه ببعض الحلول الترقيعية الرقميّة المساعدة ، بعيداً عن مستوى انتاج المحتوى أو على مستوى الاتصال والتفاعل ، مع اعترافنا بأنّ هذه الحلول على أهميّتها لا تحل محل الحلول الأصيلة التي تاتي نتيحة تراكم الخبرات في مجال التعليم الالكتروني ، والتي كان يفترض بالدولة تأمينها على مستوى وطني خلال الفترات السابقة وسنوات مضت وفي عهود وزراء سابقين ، لنتجنب مشهد العجز الذي طغى على أداء القطاع التربوي عموماً منذ السنوات العشر الاخيرة .
واخيراً ما تم ايراده من ملاحظات ليس انتقاصاً من حجم وقيمة العمل الذي قامت به وزارة التربية والتعليم بل بالعكس اوجه تحيه اكبار واجلال واحترام الى كل العاملين من مسؤولين ومشرفين ومعلمين الذين بذلوا ما بوسعهم من اجل انجاح تجربة مريرة عانت منها اغلب الدول وما زالت تعاني ولكنا لا بد من تقييم العمل في محطات تقيمية دورية نحاول من خلالها رصد الجاهزية التكنولوجية لبرامج وكوادر المنظومة الرقمية التربوية في وزارة التربية والتعليم وشركائها ، أضافة لتقييم حجم العمل لتجربة جديدة مشجعة سعيا لتحقيق الإنتاجية المطلوبة ، حيث اننا نعتبر العودة الى خيار التعليم عن بعد خيارا استراتيجيا ليس فقط من باب الاستعداد لأزمة كورونا، بل لأن له من المميزات ما يجعله دافعا قويا للنظام التعليمي تتطلبه الضرورات الحتمية في ظل ظروف تعليمية طبيعية ورافدا من روافد التنمية المستدامة ، خاصة ونحن نواجه تحديات القرن الحادي والعشرين حيث لا بد من التعامل بشكل فعال مع الوسائل التكنولوجية مع ضرورة تغيير الصورة النمطية للتعليم والمترسخة في عقول كثير من أولياء الأمور والمسؤولين ، من خلال تغيير البنية الثقافية المرتبطة بطرق التدريس ووسائله بل وحتى مناهج وبرامج التدريس ، فالجميع شريك في هذا والجميع سيقطف ثمار نجاحه أو فشله .
والله ولي التوفيق