السرديات والقصص تحمل الأفكار والتصورات وتنتشر بين الناس كالوباء، فالعقل البشري يفضل التعامل مع الروايات الشفوية على الحقائق المجردة، ولذلك اخترع الانسان الاساطير، وربط الخيال والامل باستمرارية الحياة وتطورها، ببساطة أدمغتنا مكيفة للاستجابة للقصص.
والاقتصاد كعلم يعتمد على السلوك الإنساني الذي يتشكل بدوره تبعًا للأفكار السائدة في المجتمعات، والتي تنتشر بدورها بين البشر عن طريق القصص والمرويات والسرديات، لهذا فمن الممكن أن نقول: القصص ترسم ملامح الصور النمطية لتفسر الاحداث وتبشر بالمستقبل القريب وهي التي تصنع النظرة العامة لأي اقتصاد.
السردية الاقتصادية الأردنية تعاني تشوهًا كبيرًا، فنحن لا نجد فيها فكرة الاقتصاد القوي والمنتج، ولا هي تحمل أفكار الإنجاز المتراكم للدولة الأردنية التي تقترب من مئويتها الأولى، لكنها تركز على الحنين للماضي الذي تؤكد المرويات المجتمعية أفضليته من دون وجه حق، فلا نسب البطالة أو مستوى الدخل أو معدلات النمو تدعم هذا الحنين، ومثل ذلك رفض توجهات الخصخصة عمومًا، فهده المروية لا تستند الى وقائع في أكثر الحالات، ففي كتاب الاقتصاد السياسي الأردني -بناء في رحم الازمات- للدكتور جعفر حسان أرقام ودراسات تؤكد نجاح ١٤ عملية خصخصة من أصل ١٩ في تحسين الأثر الاقتصادي والاجتماعي لها (كالعوائد المالية والتنافسية وجودة الخدمة والعوائد للخزينة) فيما كانت ٥ عمليات خصخصة دون المقبول، ويمكن للمواطن الأردني أن يختبر مصداقية هذه الدراسات على قطاع الاتصالات مثلا، اذ انخفضت تكلفة الخدمة بارتفاع التنافسية، وكذلك تحسنت الجودة التشغيلية، وتمكن هذا القطاع من إضافة ٥ الاف فرصة عمل مباشرة بعد الخصخصة و٢٥ الف فرصة عمل غير مباشرة عن طريق الشركات المساندة له.
هذه السردية السابقة قد تغير نظرة البعض لملف الخصخصة، والحال نفسها بالنسبة للاقتصاد الأردني عمومًا، فنسب المديونية في نهاية الثمانينيات لم تكن أفضل من اليوم ولا نسب البطالة، وكذلك نسب النمو لم تكن مستدامة نتيجة توجه القطاع الخاص للاستثمارات العقارية والانشائية غير المنتجة، وغيرها من الظروف السياسية والاجتماعية، لكننا ما نزال نظن أننا لا نتجه للأفضل وأن القادم لا يبشر بالخير.
«محكية» الاقتصاد تشكل عنصرًا مهمًا يدخل في معادلات نجاحه وفشله، وهي كذلك التي ترسم التوجه العام له، وقد قدم «روبرت شيلر» الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل في كتابه «السرية الاقتصادية» أهمية السرد التاريخي في التحكم بالأحداث الاقتصادية ومن الأمثلة الكثيرة في الكتاب، فقاعة العقار والازمة المالية في عام ٢٠٠٨ وهو من القلائل الذين استطاعوا التنبؤ بها، اذ قام بربطها بروايات الحلم الأميركي وامتلاك منزل كدليل على النجاح، وهذا جعل الاستثمار في السكن أمرًا لا يقبل النقاش في الفكر السائد للمجتمع هناك.
الاقتصاد الأردني بحاجة لسرديات جديدة، تبث في الأردنيين الامل والثقة من جديد، فنحن نحتاج الى سردية تعيد تحفيز الانسان على الإنتاج والعمل، وتمد جسور الثقة بين الشارع والحكومة، نحتاج الى قصص جديدة غير قصص الفساد وعنق الزجاجة.
الرأي