السيطرة الصامتة (مراجعة كتاب)
ربى ناهض
25-09-2020 07:18 PM
"لقد انتصرت الرأسمالية لكن غنائمها لم تصل إلى الجميع " هكذا استهلت الكاتبة نورينا هيرتز خبيرة اقتصاد العولمة كتابها (السيطرة الصامتة ) الذي صدر في بريطانيا عام 2002 و نقله الى العربية صدقي حطاب.
الكتاب يقدم صورة مختزلة للنزاعات العالمية ما بعد القرن العشرين، والتي لم تتخذ شكل الجيوش و جبهات القتال وإنما تسربت إلى المجتمعات عن طريق رأس المال و الشركات العابرة للقارات فغيرت خارطة السلطات المسيطرة على الأمم.
في هذا الكتاب تمحّص الكاتبة عجلة الرأسمالية في القرن العشرين و تأثيرها المباشر و غير المباشر في الديمقراطية بل و تسعى إلى إثبات تعرّض الديمقراطية للخطر بسبب هذه الرأسمالية ، و كيف أن وضع الشركات الكبرى و الشركات متعددة الجنسيات في الصدارة يعرّض شرعية الدولة نفسها للخطر .
" اركب دراجتك"
تحدد هيرتز طليعة ثمانينات القرن العشرين كحد فاصل يصعد فيه اليمين الجديد المتمثل في انتخاب مارغريت تشاتشر أولاً ثم رونالد ريغان اللذين سعيا إلى موازنة ما كان مطلوبا من الحكومة تجاه مواطنيها من جهة،وما يجب أن يسعى له المواطنون في المملكة المتحدة من جهة أخرى .و " تحت قناع الشفقة تمّ تشجيع الناس ليروا أنفسهم ضحايا الظروف " و شيئاً فشيئاً ساعد هذا التحول في تبني الفرد استقلالا ذاتيا و اعتمادا على الذات عوضا عن الاعتماد على الدولة و تنصّلت الدولة تدريجياً من دورها في إعادة توزيع الثروة و لم تعد مسؤولة عن توفير الدعم لمن حُرِموا القدرة على أن يكونوا منتجين لأي سبب ، بل و تعرضوا لتوبيخ نورمان تيبت وزير الدولة لشؤون التوظيف آنذاك في المملكة المتحدة في أعقاب أعمال شغب عندما صرح ب"أن أبي لم يكن يشاغب، بل ركب دراجته ليبحث عن عمل" .
لقد أصبح واضحا هنا أن السياسة التاتشرية "اركب دراجتك" قد حلت محل (النظرية الكينزية)نسبة إلى الاقتصادي جون مينارد كينزوالتي تقول بدور الدولة ومسؤوليتها في الإنفاق العام و السعي لضمان الحد الأدنى من الرفاه ونسب البطالة في المجتمع البريطاني و حماية الشرائح الأقل حظا.ليتم بعدها تبنّي عدة تعديلات في الملامح الاقتصادية فتصبح الرأسمالية شعبية و تظهر ملامح الفيدرالية الجديدة في الولايات المتحدة التي تجلت في فرضيات ساهمت إلى حد كبير في دعم الشركات و أصحاب رؤوس على حساب الدولة و مساندة الأغنياء لصالح الفقراء، فاعتبر على سبيل المثال توفير الحوافز و تخفيف الضرائب على الأغنياء من شأنه خلق وظائف أكبر لأناس ستبدأ أعدادهم في التناقص من سجلات المعونة الاجتماعية، و انتشر مذهب رأسمالية السوق الحرة المبني على هذا النموذج الإنجلو-أميركي كالنار في الهشيم، وخرج من نطاقه التقليدي إلى أنظمة أوسع و أكثر تنظيما، حتى وصل إلى أقطار العالم النامي التي عانت من استغلال الاستثمار الأجنبي فيها بحيث اقتنعت بالمنافع التي يمكن أن تجلبها السوق الحرة و فتح الاقتصاد أمام اللاعبين الاقتصاديين في العالم و لو كان ذلك على حساب استقلالها و سيادتها الوطنية. إن الضغط على الحكومات لا يأتي من أسواق رأس المال وحدها و إنما من الشركات المساهمة أيضا ،و لمّا كانت هذه الشركات متعددة الجنسيات تدرك مقدار القوة التي في يدها فإنها تلعب بالدول و بالساسة لتحقيق مصالحها الخاصة .
و كما يشير الصحفي الأميركي توماس فريدمان في نظريته _الأقواس الذهبية لمنع الصراع _أنه" لم يحدث أن قطرين فيهما مطاعم ماكدونالدز قد تحاربا " ندرك تماما أثار الاستقرار الإقتصادي بمساره الدائري مع السياسي الذي تحققه المصالح الرأسمالية على بقعة انتشارها .
سياسة للبيع
دعونا الآن نخرج من جمود تعبيرات نورينا هيرتز الاقتصادية لنصوغ ما أشارت إليه بلغة توافق واقعنا الشرق أوسطي على أقل تقدير. بداية تعرض الكاتبة صور السيطرة الصامتة في كتابها المشار إليه من خلال عدة محاور و على نطاق جغرافي ممتد من موسكو إلى باريس ومن واشنطن حتى لندن في الفصول ما بين الخامس إلى التاسع. نستهل أولها بتأثير الشركات الكبرى في الحملات الإنتخابية في أمثلة عديدة أوردتها في بريطانيا و أميركا، يلخصها باختصارإيان جرير أحد المراوضين (الوسطاء) متحدثا لصاحب مخازن هارودز الشهيرة خلال الإنتخابات العامة في بريطانيا 1997حيث قال :" بإمكانك أن تستأجرهم (أعضاء البرلمان) باستطاعتك أن تفعل ما تشاء، و باستطاعتك أن تستأجرهم كما تستأجر سائق سيارة الأجرة , سيعملون لك كل شئ و بإمكاني أن أرتب لك هذا".
وبإمكان القارئ هنا أن يعي أن المبالغ الطائلة التي تحركها الحملات الإنتخابية ما هي سوى شكل من أشكال السيطرة التي يمارسها المال على الديمقراطية. فما إن يصل حصان الرهان إلى القبة حتى تؤتي تلك الأموال أُكُلَها من تسهيلات تجارية للشركات وامتيازات ضرائبية حتى من الممكن أن تصل تلك الأذرع إلى نصوص قانونية فيتم التعديل فيها بما يضمن مصالح تلك الشركات. وما إن تتمكن هذه الشركات من السلطة حتى تسعى إلى كسب الجماهير في شكل آخر للسيطرة الصامتة من خلال استغلال مؤسسات المجتمع المدني عن طريق الهبات التي تقدمها لمؤسسات التعليم والتنمية الاجتماعية و برامج تبني الموهوبين والمنح التعليمية للأقل حظاً وتتعدى الأمثلة المستوى المحلي لتتوسع إقليمياً في القارات التي تعبرها فتقلّل من عمالة الأطفال و توفر دور الرعاية اللازمة للمشردين منهم، حتى أنها قد تعدّل في سياستها الداخلية فتقلّل من ساعات العمل للموظفين الأقل قدرة. باختصار شديد تستعد هذه الشركات لتخصيص الميزانية اللازمة لحمايتها من الوقوف موقف المواجهة مع المستهلك فتكرّس نفسها على حد زعم هيرتز "لشُغل الأم". لكن المؤسف حقاً أن لا شيء إلا مقابل شيء ففي بعض الأمثلة الأشد أسفاً يلاحظ تأثير تلك الشركات في المراكز البحثية فتشتري ليس السياسة فحسب وإنما العلم.
من سيحرس الحراس؟
بعد تناول العديد من الأمثلة التي تبرهن أن المال قادر على أن يخلق النفوذ وأنه اليد المحركة لكل تلك الدمى السياسية تطرح الكاتبة السؤال العاجز: "من سيحرس الحراس؟" لتظهر الأمثلة مبشرة أن صوت المستهلك هو الرعد الذي يجر أمطار العدالة، عدا عن وجود الجمعيات البيئية و الجماعات التي تناهض اختراعات الشركات التي تؤثر سلباً على البشرية والتنظيمات التي ترعى قضايا قانونية ضد تلك الشركات، تكون حملات المقاطعة هي أضعف الإيمان وأشدها فتكاً و الأمثلة في آخر فصلين في الكتاب مقنعة لدور جماهير المستهلكين في جيوب الشركات وبالتالي على طاولة السلطة.
ختاماً، لقد اجتهدت نورينا هيرتز في هذا الكتاب لجمع شواهد عديدة من حول العالم بأسلوب سلس و مقنع لإثبات نظريتها في رسم لوحة البؤس التي حتماً ستتحقق إذا لم تبقَ السلطة منزهة عن المال، لتختم بقولها:
" إذا لم تستعدْ الدولة الشعب فإن الشعب لن يستعيد الدولة، و إذا لم توزع منافع العولمة على نطاق أوسع فإن الشعب سيظل يثور ضد العولمة" .