يقول عالم الاجتماع والمفكر علي الوردي في كتابه " مهزلة العقل البشري " أن العقل يفكر استناداً على بعض المقاييس والمعلومات السابقة. ومن الصعب ان يفكر العقل على أساسٍ غير مألوف إلاّ عقل المفكرين . ولذلك كان العقل البشري عاجزاً عن إدراك حقائق الكون الكبرى لانه محدود في ما يألف من الاشياء " . ويستشهد الوردي بقول أنشتاين " ليس هناك بديهيات ثابته ، انها في الوقع عادات فكرية".
ويقول الروائي السويدي الشهير جو ستاين غاردر في روايته " عالم صوفي " " ان تتفلسف يعني أن تفكر ، أي أن لا تقبل الاشياء كما اعتدت عليها كأمر طبيعي ، هي ليست طبيعيه الاّ بحكم التعود عليها ، والعاده تجعلك لا تسأل ، انها تفقدك الدهشه " . ويضيف " اننا نتعود ونحن نكبر على اشياء كثيره ونخلص لأن نرى كل شيىء طبيعياً ، " ويبدو انه مع العمر لا يظل هناك ما يدهشنا " ، و " نفقد بذلك شيئاً اساسياً هو ما يحاول الفلاسفة إيقاظه فنياً " .
يفتح ذلك باباً واسعاً للنقاش عن غياب الفلسفه في حياة المجتمعات العربيه ، وعّما اذا كان هو ما افقدها نعمة التساؤل والتفكير في الكون وقوانينه ، وفي الوجود ومعانيه ، وفي الحياة ومغازيها ، فباتت هذه المجتمعات اسيرة لافكار قدمت اليها كحقائق جاهزه ونهائيه وبات التساؤل عن كنهها تابوهات (حُرّم) !! عليها الاقتراب منها .
معضلة المجتمعات العربيه لا تعود فقط الى توقف الاجتهاد في القرن الثلث الهجري وبقائها لما يزيد على ألف عام تقتات على مخلفات السلف ، وانما ايضاً لأنها حوصرت على مدى الف عام خارج الفلسفه التي فتحت عصر التنوير لاوروبا على مصراعيه .
فمتى تندهش شعوب أمة العرب وتكتشف طريقها الى التنوير والنهوض ؟ ليس اختراعاً للعجلة من جديد القول بحتمية ان يسري عليها ما سرى على الامم التي سبقت . فالطريق وحيد لا بديل عنه ، سبق ان سارت عليه أممٌ ووصلت الى حيث شاءت . وعلى الطريق ثمة محطات عسيره ليس هيناً التوقف فيها ولا يسيراً الافلات منها بلا أكلاف باهضه واستحقاقات لا هروب منها .
قبل نحو 500 سنه مهّد مارتن لوثر بثورته على الكنيسه لثورات اوروبيه لاحقه بعد أن تضرجت ثورته بحرب الثلاثين عاماً الاعنف والاطول بين حروب القاره الاوروبيه . فبعد قرن ونصف القرن قامت الثوره المجيده في انجلترا ، وبعد قرن ونصف كانت فرنسا تثور وبعد بضع سنوات قامت الثوره الامريكيه . وفي الاثناء كان فكر التنوير ونهوض العلم يسيران بتسارع على خط مستقيم ليتغير وجه التاريخ في اوروبا وامريكا .
تنوير الفكر ، والنهوض بالعلم ، هكذا يمضي التغيير في حياة الامم على طريق التقدم المؤلم الذي لا بديل عنه . فماذا تحتاج أمة ما ان تستيقظ بثورتها حتى يسهل اختطافها غير فكر متنوروعلم ناهض؟