*(إلى أحدِ الأَصْدقاءِ بِمُناسبةِ زَوَاجهِ المَيْمون)
هي الحياةُ لا تَبقى على حالٍ عَروسَنا النَّبيل، ولا بُدَّ للعازبِ بعد ارتياح في عَناء، من زواج وعَناءٍ في ارتياحٍ، ولو كانَ للمرء خيارٌ بين هذا في ذاك، أو ذاك في هذا، لآثر أنْ يلوذَ بحضنِ أمِّه الدّافئ، فيُغنيه عن كلِّ حضنٍ مَهْما حَلا وعَسَّل؛ لكنّها سنّة الله في الخَلْق، قضى فيهم –وقضاؤُه مُبرمٌ- أنَّ ميثاقًا غليظًا يَنْعقد بين اثنين، يُؤسّسُ لامتدادٍ في الحياة طويلٍ، لا يَنْحلُّ أو يَنْقطعُ حتّى يرث الله الأرض ومن عليها.
أمَا وقد أُبرمَ الميثاقُ، وآنَ أوانُ الاجتماع، فما أوحشَها نادرةً، وما أشدَّ تَلبُّدَها سماءً، أَنْ نَكونَ ساعةَ زَفافِكُما غُرباء، ولَحْظةَ فَرحتِكُما نُزَلاء، ويَومَ اجتماعِكُما لا نَتنفّسُ الصُّعَداء! فإِليكمَا -وأَنتما تَرْفُلانِ بثوبِ الهناءةِ، وعِطرِ الفرحةِ، وحَيَويَّةِ اللّقاءِ– أَبعثُ باقاتِ وُرودٍ وزهورٍ جميلةً مُزركشَة، وكلماتِ سُرورٍ وَحُبورٍ زاهيةً مُزْهرة؛ يَزيدُ من تَضَوُّعِ مِسْكها وإزهارِ زَهْوِها، أَنّكما عَروسانِ تُحَلّقانِ في مَلكوتِ الحُبّ، وتَسْعيانِ لامتدادِ حياةٍ حاليَةٍ لا تَغيبُ شَمْسُها، وتُصفّقانِ للطّيور عائدةً تُسابقُ الغروبَ في جَوّ السَّماء، فتحنو عليها أعشاشُها، فتُغْمضُ أجفانَها على رؤًى وَرديَّةٍ تَبسِمُ للحياة، وتُغنّي للجمالِ، وتُضيءُ سَكينةً ومودَّةً، ورحمةً وأُلفة ومَحبَّة، في قلوبِ العاشقينَ.
اعْلَمَا أَنّكُما تَؤُولانِ إِلَى بيتِ الزّوجيّة، قد خَلَّفتما كُلَّ بارحةٍ مِن بوارحِ العُزوبةِ، وتَسْتحضرانِ كُلَّ سَانحةٍ مِن سَوانحِ الخُطوبةِ، وتُعانقانِ السَّماءَ أنْ يَمُنَّ اللهُ عليكما بالرَّفاءِ والبَنينِ؛ فباركَكُما اللهُ، وباركَ لَكما، وباركَ عليكُما، وجَمَعَ بَيْنكما عَلى خيرٍ، وفي كُلّ خَير.
ما أَجْمَلَها ساعةً تَتآلفُ فيها القُلوبُ، وتَتكلَّمُ فيها النّظراتُ بعد طُول اشْتِيَاقٍ! كيفَ لا، وأنتما على ميثاقٍ غليظٍ في الكتابِ المُبين، وسُنّةِ الرّسولِ الأَمينِ؟ تُؤمِّلانِ من الباري سُبْحانَه وتعالى سدادًا ورشادًا، حَاديكما: "ومِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِنْ أَنْفُسِكُم أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْها، وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَوَدَّةً وَرَحْمَةً؛ إِنَّ فِي ذلكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكّرون".
أَخِي الزَّوج الكريم، ساقكَ الله إلى بيتٍ عزيزٍ، فَحُزتَ فيه زَوْجًا ذاتَ دَلّ، حَييّةً، غَضِيضَةً، نَاعسةَ الطَّرْف، فآلَتْ إليكَ قد فارقتْ أَهلًا وأَحبابًا، قَضَتْ زَهرةَ شبابِها بينهم، فَكُنْ لها الأَهلَ والأَخَ، وقَبْل ذلك الزّوجَ التَّقيّ النَّقيّ، ولتكُنْ في بَيتكَ الصَّدِيقةَ الصَّدوقة؛ فاتّقِ اللهَ فيها، واسْتَوْصِ بِها خَيرًا، ولا تَفْرَك ولا تُوبِّخْ؛ فإنْ كَرهتَ مِنْها خُلقًا رَضيتَ آخَرَ؛ تكن لك حَسنةَ المَعْشر، قريبةَ المَأخَذ، تَخافُ على روحكَ من النَّسيمِ، وتُجفّفُ حبّاتِ النَّدى لئلا تَزلق في الصّيفِ الرَّطيب. وأَنْتِ أُختي الزَّوجُ الحًنونة، فقد وَجدَ فيكِ الشّابُّ الجميلُ الوَسيمُ، صاحبُ الطُّرْفةِ السّيّارة، ضَالَّةً فنَشَدها، وأمَّلَ فيك انطلاقةَ الرّوحِ في عذاباتها، يُناجي في ساعاتِ التَّرجّي:
رَبّاهُ إنَّ الرُّوحَ ترجو رحمةً/ تـاهَ الطَّريقُ فيا إلهي دُلَّها
ضاقتْ بها الدُّنيا وبَابُك مُشْرعٌ/ إن لَّمْ تكنْ أنتَ المُغيثُ فمن لها؟
فَأوى إِلَيكِ يَبحثُ عن خَيريَّةٍ جَبَلكِ اللهُ عَليها، فكُوني مَعه زوجًا تُطيعُ في غيرِ مَعْصية، عَرُوبًا تَتَحبَّب من غير ابتذال، ناضِرَةً تَسرُّ النّاظرين، يكن لكِ جَملًا ذلولًا، يتغيّا رضاكِ لا يُنازعكِ فيه فتيلا.
لِيكنْ كتابُ الله مَأْدُبَتكُمَا، وسُنَّةُ النَّبِيّ -صَلّى اللهُ عليه وسلّمَ- زَادَكُمَا، لَن تَضِلُّوا ضَلالَةً أَبَدًا، بَل إنَّ في ذلك صَلاحَكما ودوامَكما؛ فَلا تَتضجَّرا وَلا تَتبرَّما، واهْجُرا كُلَّ خُلُقٍ غَيرِ حَسنٍ أَلِفتُماه قَبْل إِلفكُما، وَاسلُكا طَريقًا رَاشدةً تُحَقّقان مِنْ خلالِها مَجْدَكما، فَصَبْرًا في بناءِ الحياةِ صَبْرًا، وبُعدًا عن المِزاجيَّةِ وضيقِ الصَّدرِ بُعْدًا.
واعْلَمي –أيُّها العَروسُ الرّانيةُ إلى حَياةٍ مِلْؤُها الرَّفاهيةُ والسَّعادةُ- أَنّ زَوجكِ يَوْم يَكونُ عندكِ لا يُباريه رَجلٌ، وأَنّ زَوْجَكَ –أيّها الزَّوجُ الطّامحُ إلى خلودٍ سَرمديّ- يَوْم تَكونُ عِندكَ لا تُجاريها امرأَةٌ- فإنَّ أرواحُكما تتوافقُ وتأتلفُ، وإنْ كَشَّر أيٌّ منكما عن أنيابِه بارزةً لكلّ صغيرةٍ تَناهى صِغرُها، فَحَليفُكما شيطانٌ ماردٌ يُثير الأرضَ لنِفارٍ وخِلاف، وشقاقٍ ونزاع، وليس هذا دأبَ المُؤدَّبينَ على صورتِكما في بيوتٍ؛ قامتْ على كلِّ فضيلةٍ تُغرّدُ للمُحسنين: أنْ أحسنتُم، وتَلومُ المُسيئين: أنْ أسأتُم، و(تُزغردُ) للغُيّابِ القادمينَ بعدَ طُولِ اغترابٍ وغُربةٍ، ووَجَعِ شَوْقٍ وحنين- لحنًا جميلًا.
وإنّما بيتٌ أنتما فيه؛ هو منزلٌ يَتربَّى فيها الأَولادُ، ويَنْشأُ على التّربية الصّالحةِ فَلِذاتُ الأكباد، فالبِشْرَ البِشْرَ، وحَذَارِ حَذَارِ مِنَ الزِّحَام والنِّفَار، تَكونانِ للذُّرِّيّة أَحضانًا دافئةً، وعُقولاً نَاضجةً، وعَواطفَ جَيَّاشةً، وكُلُّهَا تُبْعدُ عن النّفْسِ أَحزانًا وأَتراحًا، وتُشرِقُ فيها أَسَاريرَ وأَفْرَاحًا؛ فَأنتِ الزَّوجةُ جَنَّةُ البَيتِ ومَرعَاه، وأَنتَ الزَّوجُ جُـنَّتهُ وحِمَاهُ.
وعندما تُكبِرُ الزَّوجُ أهلَ زوجِها يُكْبرونها، وإذا تَرَفَّعت عَن الصَّغائرِ والدَّسائس، وابتعدتْ عن قيلٍ وقالٍ، أَمَّنوا لها واستأمنوها. وإذا حفظتَ أَنتَ أَمانةَ حَميك، وحَمَيتَها مِن كُلّ سوءٍ، وغفرتَ الزّلات، وأقلتَ العثرات، وسترتَ السَّوءات، كَبُرتَ في عَيْن أَبيها، وذُكرتَ على لسانِ أُمِّها، فَتحُوز بذلكَ سَبْقًا أَنْ صارَ لكَ أَبوانِ، فَتقرّ عَينُك، وتَهْدَأ سَريرتُك.
وبَعدُ، فقد تَمنَّيتُ أنْ أكونَ بينَكما ولاتَ تنفعُ الأماني، ولكنَّ أصابعي تَعْزفُ لكما لحنًا، يُفجّر ما كَمَنَ في حناياكما من فَيضِ الخلود، وقلبي تَعَلَّق بربٍّ؛ مأمولٍ فيه قريبٍ، لا تراه العيونُ، ولا تُخالطُه الظّنون؛ رَجَوتُه وأرجوه –سبحانه- أنْ تَكُونا سعيدَيْنِ بزواجكُما سَعادةً أبديَّةً، لا يُعكّرُ صَفوَها مُعكّر، ولا يَنالُ منْها حاسدٌ مُصَعّر؛ فأَقبلا على اللهِ في الطّاعاتِ، وأَنيبا إليه فِي كُلِّ الظُّرُوفِ والأَوْقَاتِ، والله يَتَولَّى الصّالحين.