في عام 1917 كانت الهند تحت الاستعمار البريطاني ، وقد انتشرت أفاعي الكوبرا في مدينة دلهي بشكل ملفت للنظر، وأصبحت تهدد حياة البشر بشكل واضح ، ففرضت الحكومة مكافآت لمن يقتل أفعى الكوبرا ، وعليه سارع عدد كبير من السكان بقتل ما يجدونه من الأفاعي ، وكانت النتيجة الانخفاض الكبير في عدد الأفاعي، لكن السكان استغلوا هذا الوضع وقاموا بتربية الأفاعي في منازلهم بهدف قتلها والحصول على مبالغ مالية أكبر ، وحيال ذلك شعرت الحكومة بهذا الخداع وقامت بإلغاء المكافآت، وكانت النتيجة كارثية بعد أن قام أصحاب الأفاعي بتركها في الشوارع والبراراي ومما سهم في الانتشار الكبير في عدد الأفاعي بشكل أكثر من السابق .
في قصة أخرى قامت شركة صناعة الطائرات إيرباص برصد حالة من الاهتزاز القوي في طائراتها من طراز A320 أثناء تحليقها بالجو ، وهو الأمر الذي يسبب الخوف والهلع وعدم الراحة للركاب أثتاء الطيران ، فقامت الشركة بابتكار جهاز عمل على إخفاء الاهتزاز تماماً ، لدرجة أن الكثير من الركاب بدءوا ينزعجوا تماماً من حالة الهدوء التام في المحركات أثناء الطيران، وبات مصدر قلق للركاب أكثر من أي وقت مضى قبل التطوير .
هناك الكثير من الأمثلة والشواهد التي تظهر أثر الكوبرا في القرارات الحكومية في مجالات الاقتصاد والسياسة والاجتماع، ويعود ذلك بشكل رئيسي إلى عدم قدرة فريق العمل على تخمين المشاكل الاقتصادية والسياسية التي تعاني منها المجتمعات المحلية ، وضعف تحديد مستوى دقتها وعمقها وآثارها المتوقعة وكيفية معالجتها ، وربما فإن الحال الذي وصلت إليه مؤشراتنا الاقتصادية والسياسية تعد حقيقة واقعة تبرز أثر الكوبرا بالتحديد.
لقد أظهر فيروس كورونا هشاشة واضحة في بنية الفكر الاستراتيجي لدى صناع القرار ومخططي القطاع الحكومي لدينا، وبخاصة من يعملون في القطاعات الحيوية الصحية والتجارية والسياسية والتعليمية، ونجد أنه معظم القرارات المتخذة قد حملت الكثير من التكاليف الضمنية التي فاقت العوائد التي حققتها. فعلى مدار خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية كانت مؤشرات الاقتصاد تأخذ آثار المنح والمساعدات بشكل رئيسي في الاقتصاد، ولم يكن هناك جدية واضحة في التوجه نحو الاعتماد على الذات منذ فترات طويلة جداً، وعلى ما أذكر أنه في أحدى السنوات قدم وزير ماليتنا مشروعاً للموازنة المتوزانة الأمر الذي أغضب بعض صناع القرار الاقتصادي المتنفذين آنذاك . لقد كان بالإمكان البدء بمشروع الإصلاح والفطام مبكراً ، وحينما كانت الظروف المواتية أفضل بكثير مما هي عليه اليوم ، لكن أن يتم الفطام في عمر الجامعة ، فهذا التوجه يميل للتنظير أكثر من إمكانية التطبيق الفعلي ، وهو نذير بالخراب الاقتصادي الأعمق.
كثيرة هي السياسات التي نفذتها الحكومات المتعاقبة وكانت نتائجها كارثية على الاقتصاد والدولة، فمشروع التخاصية الذي تم في بداية الألفية الثانية كجزء من مشروع الإصلاح الهيكلي والذي تبنته الدولة بعد الأزمة النقدية عام 1989، ومن خلاله سعت الحكومة للتقليل من عبء المؤسسات الفاشلة على الاقتصاد والموازنة العامة ، ولكن جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن وبيعت المؤسسات بأبخس الأثمان وذهبت عوائد التخاصية أدراج الرياح ، وخسرت الدولة أصولها فتعاظم عجز الموازنة، وتفاقم الاقتراض ، وزادت مؤشرات البطالة والفقر. من السياسات الأخرى بالمفهوم الواسع ما سمي بمشروع هيكلة الرواتب الذي تبنته حكومة معروف البخيت ، وحسب المؤشرات فإن نتائج الهيكلة أفرزت تشوهات واضحة في هيكل الأجور والرواتب نراها حتى اليوم ، وحملت الخزينة أضعاف مضاعفة من الأموال مقارنة بما قدرته الحكومة في مشروعها المقترح.
أما بالمفهوم الضيق فبدأت حكومات أخرى بالعمل على تحرير سعر الخبز ، وقامت بترويج فكرة القرار على أنه المنقذ لخزينة الدولة ، ولكن في واقع الأمر سبب القرار تشوهات اقتصادية مازلنا نعاني منها للآن ، وظهر الضعف في تحديد السعر العادل للخبز ، وآلية توزيعه ، والفئات المستهدفة منه، وعليه باتت الكلفة الاجتماعية والاقتصادية للقرار أكبر بكثير من التقديرات التي حصرتها في 70 مليون دينار كوفر لهذا القرار .قانون الضريبة المشؤوم الذي أسقط حكومة الملقي شعبياً ، وجاء بالرزاز إلى الدوار الرابع؛ كان مسمار جحا الذي أجهض كل الجهود التنموية للحكومة منذ اليوم الأول ، وكل الشواهد والمؤشرات تؤكد أن هذا القانون لم يكن أداة تنموية بقدر ما كان عبء إضافي على كاهل الاقتصاد ، وباعتراف مسؤولي المالية العامة فقد عمق من سياسة الجباية ، ورفع من كلف الاستثمار الأمر الذي قلل من مستويات التشغيل وزاد من معدلات الفقر والبطالة ، وظهر أثر الكوبرا في تراجع الإيرادات الحكومية إلى مستويات قياسية.
الحكومة الحالية كان لها حصيلة الأسد من قرارات الكوبرا ، فقرار الحظر الاقتصادي الذي مازالت تمارسه كأداة ضغط على مقومات البلد المتآكلة ، م ينجح حتى الآن في احتواء الوباء أو تنشيفه ، بل كان الحظر سبيلاً لتعزيز هشاشة البنية الاقتصادية في البلد، وأدت مجمل قرارات الحكومة في هذا الاتجاه إلى تفاقم الكلف الاقتصادية والمالية على الدولة وسببت ارتفاع الاقتراض لمستويات قياسية ، وتسجيل أرقام جديدة في الفقر والبطالة وعدد المنشآت التي تم إغلاقها ... الخ ، كما لا نعفي وزارة العمل من هذا الأثر إطلاقاً.
ما قبل كورونا ....... يختلف عما بعد كورونا شعار ردده المسؤولين في الحكومة ، وهذا القول صحيح بالمطلق، فقد ظهر للجميع وبما لا يدع مجالاً للشك بأن القرار الاقتصادي تائه ، ولا يستند إلى خطط تشغيل حقيقية، من شأنها خلق مشروعات حقيقية ذات قيمة مضافة عالية على غرار الاسمنت والبوتاس والفوسفات في بدايات التأسيس من خمسينات القرن الماضي، ولا يمكن مقارنتها بمشاريع الكمامات التي حققت صادرات بقيمة 96 مليون دينار خلال 6 أشهر ، إذ أن هذه الأرقام لا يمكن البناء عليها في تحقيق معدلات مرتفعة من النمو الاقتصادي على المدى الطويل، وتكون قادرة على امتصاص معدلات البطالة المرتفعة.