طرحت وزارة الاقتصاد الرقمي و الريادة مؤخراً " الاستراتيجية الاردنية للتحول الرقمي 2020" ويبدو ان كل شئ في "2020" يمشي معكوسا ومخالفا للواقع، لم تكن صدمتي من ضحالة هذه الاستراتيجية وفقرها لابجديات التخطيط الاستراتيجي الذي اصبح افتقاده ميزة العمل العام في بلدنا، بل ان ما يؤلمك بمرارة ان تصدر مثل هذه الاستراتيجية من الاردن ذلك الوطن الذي زخر بعقول رقمية ادهشت العالم باسره لا بل ان مصطلح "الحكومة الالكترونية"أُنتج في الاردن وانتشر منها في تسعينات القرن الماضي وزيادةً على ذلك فان معظم اجهزة الحكومات الالكترونية في دول الخليج العربي يشرف عليها ويديرها كفاءات اردنية.
عجت وسائل الاعلام بخبر طرح "الاستراتيجية الوطنية للتحول الرقمي 2020" التي وصفت بانها رشيقة وتسعى لتحول رقمي متكامل وتمكين المجتمع الاردني رقمياً وتسهيل حياة المواطنين بشكل غير مسبوق وتعزيز الابتكار وتقديم حلول شمولية لنقلنا الى الطفرة الرقمية، مصطلحات "مرعبة" حقيقةً اخذت خيالي بعيدا لدرجة انني وانا اتابع اعمالي من مكتبي وعبر هاتفي النقال حركت سيارتي الكهربائية لشحنها من المحطة واعادتها لموقفها!!
للأسف فإن الاستراتيجية جاءت صماء ومبهمة ومليئة بالحشو الانشائي وتكرار بمعظم محاورها لما أُنجز من قوانين ناظمة تدفع باتجاه التحول الرقمي كالجيل الخامس وانترنت الاشياء والذكاء الاصطناعي والامن السيبراني وسلسة الكتل وغيرها.
لم تُجب الاستراتيجية على اكثر الاسئلة بداهةً في علم التخطيط الاستراتيجي ، اين نحن الان ؟ وما الهدف الذي نسعى للوصول اليه؟ وما هي الوسائل لبلوغ هذا الهدف؟ كما افتقرت الاستراتيجية لابجديات التخطيط الاستراتيجي فلم توضح المنهجية التي أُعدت من خلالها ولا حتى مراحلها وافتقدت لعنصر هام جدا وهو تحليل البيئة الداخلية و الخارجية (SWAT analysis ) والذي يشكل التصور الرئيس الذي تبنى عليه الاهداف المنشودة وادوات تنفيذها.
وبينما تُعلن الاستراتيجات الرصينة عن اهدافٍ محددة او ما باتت تعرف "بالاهداف الذكية" حيث يتم تحديد هدف عملي وكيفية تنفيذه والجهات المعنية بالتنفيذ واطار زمني للتنفيذ ومؤشرات لقياس الاداء والنجاح ( KPIs )، جاءت اهداف هذه الاستراتيجية عريضة و عامة ومكررة مثل رفع كفاءة الاداء الحكومي و تسخير البيانات ذات الجودة والموثوقية وتحفيز الابتكار وتمكين المجتمع الاردني رقميا دون تحديد مشاريع وشركاء لتحقيق هذه الاهداف واطار زمني ومؤشرات اداء ما جعل هذه الاهداف مجرد فرضيات واهداف عامة تشترك كل دول العالم في امال تحقيقها وتدخل في خانة الترويج الاعلامي لمشروع غير مكتمل الاركان ومحال التحقيق.
ان الحديث عن التحول لدولة رقمية يقتضي بالضرورة اهمية الحديث عن "الصناعة الرقمية" ووضعها على سُلم الاولويات بحيث تقودنا الصناعة الرقمية لعملية نقل سلس وسريع الى الثورة الصناعية الرابعه وهو الامر الذي أُسقط تماما من حسابات هذه الاستراتيجية، فالتحول الرقمي لا يكون فقط بخدمات الدفع الالكتروني وانجاز المعاملات الكترونيا وانما بتدشين منشآت تجميع وتصنيع تكنولوجيا المعلومات وتطوير صناعة انتاج البرامج والاجهزة ونشر حاضنات الاعمال الرقمية في كافة ارجاء المملكة واستقطاب المستثمرين المحتملين في هذا المجال من كافة دول العالم.
ولم يكن الحال افضل بالنسبة ل "الزراعة الرقمية" التي اصبحت تشغل بال الكثير من الدول في محاولة لتعزيز الانتاجية من خلال الابتكار لمواجهة الطلب المتزايد على الغذاء وذلك بتنفيذ حلول رقمية زراعية كجدولة انظمة الري بالرش والتنقيط وتحسين انتاجية الاراضي ورفع كفائتها وتعزيز الزراعة في البيوت الزراعية الذكية لمضاعفة الانتاج وتعزيز دور المنصات الرقمية الزراعية في التشبيك بين المنتجين والمستهلكين وبين المنتجين والتجار.
للاسف هذه الحقيقة، اغفلت استراتيجيتنا الوطنية للتحول الرقمي 2020 اهم عنصرين في تحريك الاقتصاد ودعمه وتعزيز مكانته وخلق وظائف لوضع خطط بديلة لمواجهة احد ابرز تهديدات التحول الرقمي وهو فقدان اعداد كبيرة من فرص العمل التقليدية.
اشارت الاستراتيجية لامكانية توفير بحدود ثلاثين الف فرصة عمل لاردنيين ومن فرط التفاؤل اشارت ان فرص العمل تلك سيحظى اللاجئين السوريين بنصيب منها وأهملت ما هو أهم من ذلك وهو الاستثمار في الاشخاص ذوي المواهب والمهارات الاستثنائية بوصفهم منتجون ومبتكرون للتكنولوجيا الرقمية حيث يعد الاستثمار في القدرات الرقمية لذوي المواهب هو "الاستراتيجية الافضل للمستقبل" و اعادة تشكيل هذه الاصول المهمة من الشباب الذين يشكلون غالبية المجتمع الاردني وتحويلهم الى قوة انتاج ابتكاري وليس قوة بحث عن عمل، عوضاً عن الاستمرار بتكرار المحاولات اليائسة في ايجاد فرص عمل في الوقت الذي تشهد نسب البطالة فيه اضطراداً ملحوظاً.
لم تتصف " الاستراتيجية الوطنية للتحول الرقمي 2020" بالشمولية الواجبة والقادرة على نقل دولة
مثل الاردن بما يحتويه المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي من تعقيدات قد تعرقل عمل اي استراتيجيات او خطط، فهي لم تول اهتماما كافيا للمناطق النائية مثلا او للاشخاص ذوي الهمم او مخيمات اللاجئين.
ان الحديث عن استراتيجية وطنية لتهيئة اي دولة للولوج الى العصر الرقمي يستوجب ارساء معايير للثقافة الرقمية ونشرها لتحضير المجتمع ولتحفيز الابتكار وبناء الشراكات والتعاون المنتج بين القطاعات كافة.
لقد اجابت هذه الاستراتيجية الضحلة والتي افتقرت لفلسفة العمل الاستراتيجي بوضوح على سبب التراجع القوي عن مؤشر تطور الحكومة الالكترونية الصادر عن الامم المتحدة 2020 حيث حل الاردن في المرتبة 117 من أصل 193 دولة على مستوى العالم لعام متراجعاً 19 مرتبة عن الترتيب السابق الصادر في العام 2018، وحسب التقرير كان السبب في ذلك إلى التطور السريع لأداء الحكومة الالكترونية في البلدان الأخرى، مشيرة إلى أن الأردن حصل على درجة أقل من الدول ذات الأداء الأفضل بنسبة 40 - 50 بالمئة تقريباً.
* رئيس مجلس ادارة جمعية سيدات ورجال الاعمال الاردنيين المغتربين