الباص السريع مشروع أردني جرى التفكير بتنفيذه منذ بدايات الألفية الثالثة وتم تحديد مساراته واقتطاع المسارب من بعض الشوارع العامة قبل اكثر من خمسة عشر عاما.
من المؤسف ان الفكرة بقيت بين المد والجزر لسنوات حتى قررت الامانة المباشرة بالمشروع قبل اقل من عامين. في عمان أصبح الناس يعانون صباحا ومساء من الازمة التي تولدت من اغلاق نصف الشارع الرئيس الواصل بين العبدلي والجامعة الاردنية لأكثر من عشر سنوات على ذمة الباص السريع.
العودة المفاجئة لتنفيذ فكرة الباص السريع بعدما اعتقد الكثير من الناس انها اهملت او جرى التخلي عنها تسببت في ارباك كبير لسكان عمان والزرقاء وجر الكثير من المصائب والويلات على مئات الأسر واصحاب الاعمال، كل ذلك من جراء الاغلاق لعشرات الشوارع وما ترتب على ذلك من صعوبة وصول الزبائن للمتاجر والمحال التي اغلقت بسبب الاعمال التي غطت عشرات الكيلومترات في وقت واحد.
على امتداد الفضاء العماني تحولت اجزاء واسعة من العاصمة الى ورشات هدم وبناء مفتوحة وغير منظمة. في عمان والزرقاء واينما اتجهت تجد اعمالا وجسورا وحفريات بعضها لم ينته فيها العمل منذ اكثر من عام. في كل مرة أشاهد فيها الآليات وخطوط المياه التي جرى تدميرها بآليات المقاولين الجدد أتأسى على مستوى الهدر والتعدي والارتجال الذي يجري في بلادنا تحت عناوين التخطيط والمشاركة.
في الصين وكوريا وحتى في السعودية والعراق يجري تنفيذ المشروعات الانشائية بسرعة هائلة وبخطط لا تسمح أن تفتح الورشات على مدى عشرات الكيلومترات بل في مقاطع يجري تنفيذها ضمن أطر ومواعيد زمنية محددة تماما. في كل بلدان الدنيا يجري إبلاغ الجمهور بالمسارات التي ستتخذها الطرق والمدد المقدرة للتعطل وتخصص تعويضات لمن يمكن ان يلحق بهم الضرر. من غير المجدي ولا المقبول ان تعوض الأسر واصحاب الاعمال بكلمات وجمل شكر ودعاء وتركهم فريسة للجوع والبطالة والمعاناة. الممارسات التي تتم بهذه الطريقة تولد مشاعر الغضب والحقد والضغينة التي لا تخففها الزيارات واللقاءات التي يجريها معهم المسؤولون.
عمان التي كانت إحدى المدن العشر تفقد الكثير من جمالياتها وروحها لمقصلة الباص السريع الذي تعمل آليات المتعهدين على اجتثاث وطمس ذاكرة اقدم شوارع المدينة والمحاذي للساحة الهاشمية. في شارع الهاشمي وقبالة المدرج الروماني تعمل عدد من الآليات الضخمة على تقطيع وشلع المئات من اشجار الزينة التي يتجاوز عمر بعضها التسعين عاما دون ادنى اكتراث لما تمثله من قيم جمالية وتاريخية وتراثية.
في مشاهد مزعجة ومستفزة تقوم آليات الحفر والطمر بتقطيع وشلع اشجار النخيل التي تزين الجزيرة الوسطية لشارع الهاشمي قبالة المدرج الروماني والتي يزيد طول بعضها على عشرين مترا. اليوم وبعد هذه الاعمال اصبح الشارع الواصل بين المقر والجامع الحسيني لا يشبه الصورة التي اختزلناه له في ذاكرتنا فقد بدا الشارع موحشا ومجردا من اي قيمة او تجهيزات جمالية.
لا أعرف وأنا أتأمل الشارع الذي تنوي الامانة تشييده في وسط عمان القيمة الاقتصادية او الجمالية المضافة له ولقاع المدينة، فالازمة الحقيقية للأردن وتخطيط المدن أن مجالس المدن ولجانها التي تناقش قرارات الإعمار والتجديد لم تعد تعنى كثيرا بالقيم والمفاهيم المتعلقة بروح المدن وهويتها وشخصيتها فقد اظهرت الانتخابات المتكررة لهذه المجالس تنافس السماسرة العقاريين والتجار وابناء التجمعات العشائرية في الواجهات المطلة على المدينة على مقاعد المجالس المنتخبة ودخول المتعاونين الامنيين الى جانبهم.
في كثير من مدننا ومجالسنا المنتخبة تراجع حضور الفنانين والمؤرخين والمعماريين المهتمين بعناصر الهوية ووحدة المكان والجمال لحساب المقاولين والتجار والسماسرة والاشخاص الذين يمضون جل اوقاتهم في الدوائر الامنية.
لم تكن المدينة وجمالها الضحية الوحيدة للباص السريع فالكثير من التجار في شرق عمان ومدينة الزرقاء يعتبرون الباص السريع والاغلاقات التي احدثتها ورش العمل بين ليلة وضحاها السبب الرئيس في قطع ارزاقهم وتوقف تجارتهم وتكبيدهم خسارة لا يقوون على تحملها.
الغد