كُنت مشاركاً في مؤتمر دولي خارج الأردن, عندما تناقلت وسائل الإعلام, نبأ إحالة سماحة الدكتور الشيخ نوح سلمان القضاة إلى التقاعد. وهو النبأ الذي أصاب الحضور بالدهشة والوجوم والاستغراب, نظراً لمعرفتهم بمكانة الشيخ العلمية والفقهية, وقدرته على العطاء; فمثله لا يحال إلى التقاعد. ومثله يُعض عليه بالنواجذ. لأنه عالم يذكرنا بعلماء السلف الصالح الذين صاروا عملة نادرة.
لم يكن الشيخ نوح موظفاً عادياً يسعى إلى المناصب والترقيات ليكبر بالمنصب, بل العكس هو الصحيح, فقد سعت إليه المناصب وكبرت به, لأن سماحته شكل أضافة نوعية لكل المناصب التي شغلها, ففوق المهابة والوقار والجدية التي كان يضفيها على المنصب, فإن سماحته كان أيضاً يُرْسي أخلاقيات للوظيفة العامة, يحسن بنا أن نقتدي بها, ونتعلم منها, ونحن نتحدث عن تطوير القطاع العام. وهو التطوير الذي أبتكرنا له وزارة كاملة لم نَرَ لها بعد أثراً, في حين لمسنا آثار سماحة الشيخ نوح في كل المواقع التي شغلها, وآخرها منصب المفتي العام. حيث كانت آخر مآثر سماحته في هذا الموقع إن سماحته أرسى قاعدتين هامَّتين نطالب بتعميمهما على أجهزة الدولة الأردنية أولهما; أن سماحته أعاد للموازنة العامة نصف مليون دينار, زادت من موازنة دائرة الإفتاء في العام الماضي, على الرغم من حجم الإنجازات الكبيرة للدائرة التي ما زالت في طور التكوين والتأسيس بعد صدور قانون الإفتاء الجديد.
هذه الممارسة لسماحته في إعادة فائض موازنة دائرة الإفتاء, تتناقض مع ممارسات كافة وزارات ومؤسسات ودوائر الدولة, التي تتبارى مع نهاية كل عام لإهلاك موازناتها, سواء من خلال المناقلات بين بنود الموازنة, وصولاً إلى ابتكار مناشط يتم من خلالها استهلاك الموازنة, في ممارسة صارت مألوفة في دوائرنا. تنم عن عدم احترام المال العام والاستهانة به, والإصرار على هدره, وفي ظل هذه العقلية تصبح ممارسة سماحة الشيخ نوح حالة شاذة وغير مألوفة مع انها هي الأصل والقاعدة التي يجب أن تسود.
القاعدة الثانية التي مارسها سماحته, والتي نطالب بتعميمها, لتصبح من قواعد وأخلاقيات الوظيفة العامة في بلدنا, أن سماحته أعاد كل الهدايا التي وصلت إليه بصفته المفتي العام إلى دائرة الإفتاء بإعتبارها مالاً عاماً. وهو بذلك يذكرنا بممارسة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب مع أحد ولاته الذي احتجز لنفسه جزءًا من المال العام بإعتباره هدايا أهديت إليه; فقال له أمير المؤمنين ما معناه هلاَّ جلست في دار أمك وأبيك ليهديك الناس?, فكم هم المسؤولون في بلدنا الذين لا يكتفون بأخذ الهدايا إلى منازلهم, واعتبارها من أملاكهم الشخصية, بل إنهم يزيدون على ذلك, فيوظفون المال العام لخدمة ممتلكاتهم الخاصة سواء أكان ذلك إصلاح منازلهم وتأثيثها أو تجهيز حدائقهم, عدا عن استخدام السيارات الرسمية لخدمة أنفسهم وأبنائهم وزوجاتهم في غير الأعمال الرسمية, هدراً للمال العام واستسهالاً للعبث به. وفي ظل هذه الأجواء تبدو أيضاً هذه الممارسة لسماحة الشيخ نوح سلمان أيضاً شاذة وغير مألوفة; مع أنها هي الأخرى يجب أن تكون الأصل والقاعدة السائدة.
غير الاضافات النوعية التي أضافها سماحة الشيخ نوح الى أخلاقيات الوظيفة العامة, فإن سماحته أيضاً حلَّق في فضاءات تطوير الإدارة العامة, بصمت وهدوء بعيداً عن جعجعة التطوير التي نسمعها ولا نرى لها طحناً في دوائرنا ومؤسساتنا الأخرى. فعلى صعيد التدريب المستمر الذي يحدثنا عنه كثيراً منظرو الإدارة في بلدنا, ولا نرى له أثراً في مؤسساتنا فقد مارسه سماحة الشيخ في كل المواقع التي تولاها, حيث كان يعمد إلى إقامة معهدٍ في كل مؤسسة. تولى قيادتها لتدريب الكوادر العاملة في تلك المؤسسة, لذلك فمن مزايا المؤسسات التي قادها سماحته أنها لم تكن تعاني من عدم وجود الرجل الثاني أو الثالث. بل كانت تغص بالكفاءات القيادية المؤهلة لقيادة المؤسسات. وهذه واحدة تؤشر على سمة التجرد عند سماحة الشيخ الدكتور نوح سلمان; مثلما تدل على الثقة بالنفس وعدم الخوف من المنافسة, وهما صفتان حبذا لو أتصف بهما المسؤولون في بلدنا. لأن هذا هو السبيل الوحيد لخلاص دوائرنا من حالة الوهن الإداري الناجم; عن رغبة المسؤولين في التخلص من الكفاءات التي يخافون ان تنافسهم على مناصبهم.
إن هذا الخوف الذي يعيش في صدور جل المسؤولين في بلدنا, لم يجد طريقة إلى صدر سماحته لأسباب كثيرة, في طليعتها أخلاق التصوف التي تربى عليها سماحته, فجعلته زاهداً في الدنيا وما فيها. وأول ذلك المناصب التي أدار لها ظهره. وبفضل هذا الزهد لم يكن سماحته في يوم من الأيام موظفاً يطويه قرار ينهي حياته العملية, أو يفقده قيمته وحضوره. فقيمة سماحة الشيخ نوح مستمدة من حضوره العلمي الثري الذي انعكس إنتاجاً علمياً في سلسلة مؤلفاته ومحاضراته ودروسه التي تصب كلها في خانة بناء وعي الأمة الذي نذر سماحته حياته للمساهمة فيه.
ومثلما ساهم علم الشيخ نوح الواسع في تسجيل حضوره الجاد, كذلك ساهمت في تكريس هذا الحضور المناقبية الأخلاقية التي يتمتع بها سماحته وأولها: التواضع ثم عفة النفس, وعفة اللسان, وعدم أكله للحوم الناس; فلا شيء أمقت عليه من الغيبة. وهذه كلها من صفات العالم الأصيل الذي يصرف همه وجهده لبناء وعي الأمة كما يفعل سماحته.
غير حرص الشيخ على المساهمة في بناء وعي الأمة, فقد كان سماحته وما زال حريصاً على وحدة الأمة ورص صفوفها. لذلك كان وما زال يؤكد على الجوامع بين المسلمين. ويدعو إلى تنمية المشتركات. وينظر إلى النصف المملوء من كأس العلاقة بين المسلمين. ناظراً إلى الإيجابيات لتنميتها وتعميمها, لذلك كان سفيراً ناجحاً لبلده في جمهورية إيران الإسلامية التي لا تزال محافلها السياسية والعلمية والشعبية تذكره بكل الخير والمودة والاحترام.
والشيخ وهو يؤكد على الإيجابيات في واقع الأمة, فإنه لا يتجاهل السلبيات أو يتعامى عنها. لكنه لا يجعلها الأصل في خطابه. فكل من يجلس إلى الشيخ يكتشف بسهولة ويسر, أن سماحته يعي وعياً تاماً واقع الأمة السياسي والاجتماعي والاقتصادي. وما يعتور هذا الواقع من أمراض وعيوب تحتاج إلى علاج يدعو سماحته إليه. لكنها الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة. وفق القاعدة القرآنية التي يحتكم إليها سماحته في كل شيء خاصة عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر; ذلك أنه مع صلابته في الدفاع عن الحق فإن هذه الصلابة لا تحيد عن منهج الاعتدال والسماحة والموعظة الحسنة. وهو المنهج الذي تحتاج إليه أمتنا أكثر ما تحتاج في هذا الزمن, الذي صار فيه للجهل والتعصب والتطرف والتكفير مدارس ودعاة يبنون مواقفهم على الكثير من الجهل, والكثير من الخلط بين الأعراف وأحكام الشريعة, والكثير من التطاول على الفتوى. وأمثال هؤلاء لا يلجمهم إلا عالم بحجم سماحة الشيخ الدكتور نوح القضاة الذي لن يؤثر قرار إحالته على التقاعد على حجم تأثيره في حياة الناس الذين وثقوا به لعلمه وصلابته وإخلاصه; لذلك سيظل مفتيهم الذي يلجأون إليه. كلما اشتبه عليهم شيء وما أكثر المشتبهات في هذا الزمن.
عن اللواء.