حديثُ المُدير (مقامة عاذلة)
د. يوسف عبدالله الجوارنة
15-09-2020 01:17 PM
*إلى كلّ مَسْؤول قضى فما أنصف
حدّثنا المِقْدادُ بنُ نزار، قال: كنتُ في أَحدِ معارضِ الكتابِ، في صباحِ صيفٍ شديدِ بياضِ السَّحاب، أُعاينُ جديدَ المَكْتباتِ ودُورِ النَّشْرِ، وأُصافحُ الأصحابَ مِن الرُّواد والسَّفْرِ، وأُجيلُ في السُّرادقات النَّظرَ، وأُسجّلُ في دفاتري ما عَنَّ لي مِن كُنّاشاتٍ وفِكَر؛ فمنها ما يَحلو به اللسانُ، وتَطْربُ لها الآذان، وبعضُها تَقْشعرُّ لِهَوْله الأبدان. وبينا أنا في رُكْنِ مكتبةٍ تراثيَّة، تَفوحُ منها رَوائحُ كنانيَّة، إذا بسعيدٍ الأربديّ، صديقي السَّرمديّ، يُجادلُ في أثمانِ الكُتُبِ الكُتُبيّ، خريطةُ الزَّمَن في وَجْهه شاحبَة، وتَضَاريسُها تَخْلو إلّا مِن جبالٍ وأوديَة، فَرَبَتُّ على كَتِفِه، وهَتَفتُ في سَمْعِه: ما زلتَ شقيًّا يا أربديّ! ارحم الرَّجلَ الصَّعيديّ؛ فإمّا ابتياعٌ منه بِمَعْروفٍ، وإمّا تَسْريحٌ وأنتَ به رَؤوف، ألا تراه يَبْسمُ لِسُوئك أدبًا، وعيناه يُغشّيهما النّعاسُ نَصَبًا؟
قال المقداد: صَرَفتُه عن الكُتُبيّ فانصرفَ، وهناك في رُكْنِ الطّعامِ عَلَفتُه فَاعْتلَف، وجلسنا نرتشفُ فنجانَ "العَميدِ"، القهوةِ المُقدَّمةِ عند السّادةِ والعبيدِ، وسألتُه عن أخبارِه في التَّعليم والتّربية، ومُلاطفاته في التَّرويحِ والتَّسْرية؟ فقال سعيد، المُناكفُ العنيد: هل أتاكَ خبرُ المُدير؟ إنَّ أخباري معه، لا يُسَرُّ لها عدوٌّ ولا صَديق، لأنَّني بما تناهى إليه مُعلّمٌ خَرُوق، وأمسيتُ بِقَلمه كتابًا مَسْطورًا، وفي (أرشيفه) رَقًّا مَنْشورًا؛ فلمَّا يئستُ منه مَدْحورًا، كتبتُ إليه مَقْهورًا:
مُديرَنا النّاظرَ، يَا مَن رَجَا النّاسُ فيكَ فَخَاب رَجاؤُهُم، وانتظروا منكَ فَطَال انتظارُهم، أُحَيّيكَ بِتَحيّةٍ لَسْتَ لَهَا أَهْلاً، وبانطلاقةٍ ليتكَ بِهَا تَحْلو، وبِرِسَالةٍ تَشْكو إِليكَ مَظَلّة وعَويلا.
أَحَار كيف أَكتُب إليكَ من خِلالكَ، وأُسَطّر فيكَ من نَوالكَ، فَإنَّ فَاقدَ الشَّيْءِ لن يُعْطيَه، وكان المُؤمَّلُ فيك أنْ تُعْطيَه؛ إذْ أَنْتَ مَن طارت أَفْكارُه من مَعَاقلها، وغَابَتْ حُرُوفُه مِن دَفَاتِرِها، وصِرْتُ مَعَكَ –على لسان الشّاعر- فَريسَةً:
أَضِجّ من المَصَائِبِ والرَّزَايَا/ وقَدْ نَهَشَتْ بَرَاثِنُكم أَديمي
وصَار كَلامُكَ المَعْسُولُ سُمًّا/ وبَرْدُ نَسيمِكَ لَفْحَ السَّمُومِ
وإنّما أكتبُ إليكَ يَوْم شَعْرتُ أَنّ إجْحافًا منكم قد أَحَاطَ بِي، وظُلمًا عَيانًا وَقَع عَليّ، مُسْتذكرًا رائعة النُّمَيْريّ: أَبْلغْ أَميرَ المؤمنين رِسَالَةً:
مِنْ نَازِحٍ كَثُرَت إِليكَ هُمُومُهُ/ لَوْ يَسْتطيعُ إِلَى اللّقَاءِ سَبيلا
طَالَ التَّقَلُّبُ والزَّمَانُ ورَابَهُ/ كَسَلٌ، ويَكْرَه أَنْ يَكُونَ كَسُولا
وإِنْ كان مِثْلُها بَيَانًا لا تَقْربُ إليك مَعانيه، ولا تَدْنو منك مَراميه؛ فَقَد وَلَّى زَمَانٌ كان فيه لِلْكَلِمَة صَوْلات، وعَزَّ يَوْمٌ كان فيه للبيان جَوْلات.
اِعْلَم يَا مَن كُنْتَ فيه (أيْ في العِلْم) نَزْرًا يَسيرًا، أَنّ المَرْءَ لا يُخبر إلاّ بِمُعاشرة ومُعاملة، ولا يُحْكم عليه إلّا بِدِرَايةٍ ودُرْبة، وكُنْتُ أَظُنّكُم في الحُكْم عَلَى الرِّجال أَبَا عُذْرَةٍ، وأَخَا جُمْلَةٍ، غَيْر أَنّ ظَنِّي خَابَ يَوْم بانَتْ لِي رُعُونَتُكم، وصَغُرْتُم ساعَةَ وَصَلَتْنِي كُتُبُكم، فَوَاأسَفا أَنْ لَمْ يُحَالفْنِي حَظّ، ولَمْ يُوالِفْنِي جَدّ، وَقْت رَفَعْتم عَقيرَتَكُم مِن عُقْر دَارِكُم، اعتقادًا مِنْكم أَنّ الأَصْوات المُنْكرة إنّما تَكْبَحُ جِمَاح الآخرين. وأنتَ تَعْلم -وإِلاَّ فَلَسْتَ مَعْذورًا– أَنّ ظُرُوفًا نَبَتَت، وأَحْوالاً طَرَأَت، تَحُول بَيْنِي وبين ما تَرَوْنَ مِن عقوبةٍ وتَتَّخذون، وتَرْقمون مِن قرارٍ وتُقرّرون. لكِنْ هَيْهَاتَ، هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ، فَمِثلُك لو يَعْرفُ قَدْرَ الرِّجال مَا سَطَّر مِدَادَه، ولا ركب عنادَه، ولو يَدْري الإدارَة، وفهمَ الإشارَة، لَأَيْقَنَ الكفاءَةَ والنُّدْرةَ، والكِفَايَةَ والقُدْرَةَ؛ فإنّ الإدارةَ فَنٌّ وصَنْعة، وعند العقلاء ملاذٌ ونُجْعة، ولا يُحْسنُ قيادَها، كُلُّ مَن رَكِبَ جِيَادَها. نعم، لَسْتَ أَبَا ذَرٍّ كَيْما يُقَالَ فيك: "إنّكَ ضَعيفٌ وإنَّها أَمَانَةٌ"، ولكنّك مديرٌ -فِي عَصْر الرُّوَيْبِضَة- يَأْمرُ ويَنْهى، وأَضْحكَ وأبكى؛ فلا فيك كفايةُ المُديرين، وعزّت عليك بشارة المُصْلحين.
كم ناديتُ بِلِسانِ الصَّمْتِ مَرّة، وبِمِدَادِ الكَلمةِ غيرَ مَرّة، أَنّ ما يُتّخَذُ بِشَأني لا يَسْتند إلى مِعْيار، وليس فيه مِن المَسْؤوليّة مِقْدار! لكنّكَ، يا من جَمُدتْ عُرُوقُك عِنْد حَرْفيّة النَّصّ، وأبيتَ إلّا عقوبةً أنْ تُنَصّ، ما دَرَيْتَ -لا دَرَيْتَ- أَنّ المُروءة واللّيونةَ، بَلْهَ الشّفافيّةِ والمُرُونة، تَجْعل الحِجَارةَ طَوعًا بيد الحَجَّارِ، "وإنَّ مِن الحِجَارةِ لَمَا يَتَفجَّر منه الأنهار"؛ فكيف بك إذا كان حَمَّالَ أَوْجهٍ النَّصُّ، ولا يُعَرِّفُ (يُزَيّنُ) الخاتمَ إلَا الفَصُّ؟
تَعَلّمنا مِن عَبْقَريّتكم الآخذة، وحُجَّتِكُم النّافذة، أَنّ فَلْسَفة التّربيةِ تَقُوم على مَجْموعةٍ من الثّوابت، تُفْضي بالضّرورة إلى مَنْظومة من الحَقَائق؛ فكلما زَادَ قُصُورُنا في فَهْم الثّوابت، زَادَ جَهْلُنا حَتْمًا بتلك الحقائق. وَتَعلّمنا أَنّ عَلاقَةَ المُعَلّم بالطّلاب ومِهْنة التّربية، عَلاقَةُ مَنْفَعةٍ لا مَصْلحة، وتَرْبيةٍ لا تَسْلية، ووُدٍّ واحْتِرَامٍ لا تَمَلُّقٍ واتِّهَام؛ فإذا ما ضُيّعَ الصَّدرُ، وبَرَز الظَّهْر، ضُيّعتِ الأَمَانة، وظَهَرَت الخيانة.
لَسْتُ، وأَنْتم مَن أَنْتم في التّربيةِ والسّلوكِ، والإدَارَةِ وإعْطَاءِ الصُّكوكِ؟ لَسْتُ لِمُعاونيكَ نَظيرًا، ولا في دِيوانِكُم خبيرًا؛ إذْ تَجَمّعَ الخِلاّنُ في بَلاطِكُم يُشيرون أمرًا خطيرًا؛ غير أنّ زائرةً في البَدَن سَرَت، وحُرْقَةً في الصَّدْرِ أَلَمَّت، دَعَتْنِي أنْ أَبْسُط هذا المَلام، الغليظَ الكلام؛ ظنًّا مِنِّي أَنَّكَ مِن قِلّةٍ تَنْشَرحُ صُدُورُهم لِلْمُعلّمين، وتَقْضي بِإنْصَاف المَظْلومين، وتُكْبِرُ فيهم الأَنَاةَ والأَدَبَ، وتَقومُ عليهم في كلِّ جائحةٍ وأَرَب.
قالَ المقداد، وما فَعَلَ المديرُ يا سعيد، وأنتَ تَرْميه بِشَررٍ مِن حَديد؟ قال: استشاظَ كَمَدًا، وأَرْعَدَ زَبَدًا؛ لكنه في هَدْأة النَّفس وأَلْطافِها، وفَراغِ الرُّوحِ مِن أثقالِها، أحالَ الإنذارَ إلى تَوْجيه، واكتفى مِن العُقوبة بالتّنبيه.