شهدنا جميعا في مرحلة ما قبل جائحة كورونا تسارعا كبيرا في وتيرة الاتصال بين البشر، وتضاؤل معوقات الحدود والحواجز الثقافية بين الشعوب والدول، وتنامي مفاهيم القرية العالمية والعالم الصغير، خصوصا في ظل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي الرقمية الافتراضية وحتى الوجاهية منها، وقيام التحالفات والاتحادات والمناسبات التي جعلت من تواصل البشر اكثر فعالية، الى ان حلت جائحة كورونا ضيفا ثقيلا على قريتنا الصغيرة (كوكب الارض).
ولان البشر مشتركون في مصائرهم منذ بداية الخليقة، يعيشون في نظام مفتوح متداخل العناصر لا يمكن قطع أوصاله، فان اي تهديد وجودي او خطر شامل مثل الكوارث الطبيعية والوبائية والحروب سيكون بمثابة تهديد للجميع يجعل التعامل المشترك امر لابد منه.
ان ما يميز جائحة كورونا ويزيد من خصوصيتها يكمن في أن الحل المتاح هو الحل الوقائي، ريثما يتم التوصل الى لقاح فعال وعلاج ناجع، بمعنى ان تتجنب الاصابة بابتعادك جسديا عن المصاب، وعدم الاختلاط به وكل ما من شأنه ان يؤدي اليه، وهنا برزت العديد من المصطلحات ذات التاثير النفسي العميق، مثل الحظر والعزل والحجز والحجر وغيرها، وقد شملت هذا المفاهيم وطبقت على دول وشعوب باكملها.
لقد سجل التاريخ في صفحاته اليوم، تفعيلا حقيقيا لمفهوم "وباء العزلة" والذي بات محط قلق علماء النفس والاجتماع بسبب أثره النفسي على المصاب وغير المصاب على حد سواء، وذلك ناتج من الرهاب الذي سببته جائحة كورونا وضخمته وسائل الاعلام، وبعض اصحاب المصالح السياسية والاقتصادية من تهويل خطورة هذا المرض ، مما جعل التعامل مع المصابين وكانهم اسلحة بيولجية متنقلة، لا يجب التواصل معهم او الاحتكاك بهم، بل عزلهم وحجرهم، ليس هم فقط، بل حتى ان غير المصابين قد قللوا من نشاطهم وتواصلهم الاجتماعي، وقد امتد هذا العزل في بداية الجائحة الى شهر او شهرين في معظم دول العالم.
لقد ساهمت جائحة كورونا في تكريس العزلة وجعلها امرا مقبولا وحلا سائغا، وقد اتخذه البعض نهج حياة في القادم من ايامه، وفي ظل اختفاء الفعاليات الاجتماعية من افراح واتراح وغياب مظاهر الاحتفال بالمناسبات الثقافية والرياضية واغلاق المدارس والجامعات وغيرها، ما نتج عنه غياب الفوائد الجمة من هذا التفاعل الانساني، مما سيترك تاثيرا نفسيا خطيرا لدى البشر، قد تؤدي الى تفكك بعض الروابط الاجتماعية، وتنامي مظاهر العنف الاسري والغاء بعض العادات والتقاليد، وتراجع الوضع الاقتصادي، وبروز اساليب جديدة في التواصل اقل فعالية مثل تقنيات التواصل المرئي.
ان عزل الانسان عن محيطه وبيئته وعائلته، لا يقل خطورة عن عزل شعب كامل او منطقة جغرافية بحد ذاتها، حتى وان توافرت الظروف التي من شأنها ان تخفف من آثار هذا العزل، فمشاعر الخوف والاحباط والانتكاس، والخوف من العودة الى المجتمع واعادة زرع الثقة وبناء جسور التواصل بعد ان حطتمها " تهمة المرض" امر بالغ الصعوبة.
ومن مظاهر استجابة الحكومات لمخاطر وباء العزلة، شرعت في تخفيف اجراءات الحظر والعزل والحركة، فسمحت بالحركة لساعات معينة، وسمحت اخرى بالسفر المقنن ضمن اجراءات صارمة، وعادت بعض الانشظة الرياضية، وصار بالامكان لمجموعة محددة العدد بالاجتماع، والعودة الى تشغيل القطاع التعليمي والانشطة الشبابية وغيرها من الحلول التي ساهمت الى حد مقبول من تخفيف الاثر النفسي، وتخفيف من حدة العزل والاغلاق.
ان اي اجراء يتعلق بسلوك الانسان، والتغيير في نمط معيشته، يجب ان تتم دراسته بشكل واسع ومعمق، وان لا يتم اقراره بسرعة ودون تخطيط، وان كان هناك ضرورة الى ذلك فيجب التفكير بجدية بعلاج فعال للاثار المترتبة عليه، فعلاج وباء العزلة قد يتطلب جهدا اكبر بكثير من فكرة ايجاد علاج لوباء كورونا، فنحن نتكلم عن اجيال ناشئة وقادمة قد تقع ضحية لهذا التغيير الذي يعد سابقة في التاريخ الانساني.
الى جانب الدور الحكومي في معالجة وباء كورونا صحيا وتنظيميا، فان الدور الفاعل والرئيسي لمؤسسات المجتمع المدني، والمنظمات الدولية المعنية بالشأن الانساني، مهم وضروري في معالجة وباء العزلة، كذلك المؤسسات التربوية ودعم الاسرة والطب النفسي، مدعوما بتعزيز المبادئ الدينية والاخلاقية، في تنشيط وتعزيز الشعور الايجابي والتفاعلي، واعداد الخطط والدراسات ودعمها بآليات تنفيذ فعالة لمواجهة آثار وباء العزلة على الفرد والمجتمع.
حفظ الله الجميع