لسبر اغوار قضية جدلية مثل هذه , لابد من التسلح بالمعرفة و اللغة الروسية مباشرة . , وما يساعدني على ذلك هنا هو دراستي في بلاد السوفييت سابقا , و تحديدا في جامعتي فارونيج و موسكو الحكوميتين , و قدرتي على التحليل السياسي بتواضع و موضوعية . وحصولي على عضوية جمعية العلوم السياسية في الجامعة الاردنية بصفة مؤازر شرف لي , ولم تأت من فراغ . و بالمناسبة بيلاروسيا تلتحم مع روسيا بأتحاد قومي يسمى S.N.G , وهو الذي اشيد بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991 المأسوف على انهياره . واللغة الروسية مستخدمة بقوة في بيلاروسيا , و رئيسها الكسندر لوكاشينكا يتحدث الروسية دائما , وسبق لي ان زرت بيلاروسيا اثناء الدراسة في روسيا , ولازلت معجبا بالمستوى القوي للبنية التحية لعاصمتها ( مينسك) , ومعرفتي بروسيا اكثر بطبيعة الحال بحكم الدراسة و النسب . وعودة الى التطورات الاخيرة بين روسيا و بيلاروسيا قبل و بعد الانتخابات الرئاسية البيلاروسية التي جرت بتاريخ 10 اغسطس من هذا العام 2020 , وفاز بها لوكاشينكا بقوة و بنسبة مئوية وصلت الى 23, 80% , وهو الفوز السادس على التوالي بسبب سماح دستور بلادهم بالترشح لموقع الرئيس بشكل متتالي من دون توقف لفترة زمنية كما باقي دساتير العالم . ولهذا مكث في الحكم لغاية الان 26 عاما منذ عام 1994 متجاوزا الفترات الرئاسية التي احتفظ بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في قصر الكرملين في موسكو العاصمة منذ عام 2000 , رغم تصفير الدستور الروسي مؤخرا , و السماح للرئيس بوتين بالبقاء في السلطة ان رغب بذلك , و اعطاه الله الصحة و السلامة حتى عام 2036 . و الحكمة هنا في روسيا و في بيلاروسيا على ما يبدو في المحافظة على الاستقرار , ولما لكلا الشخصيتين رفيعتي المستوى , بوتين و لوكاشينكا , من كاريزما فولاذية فريدة من نوعها , وقد لا تتكرر . و لا رغبة للبلدين روسيا و بيلاروسيا بالعودة الى الوراء الى زمن الانهيار في عهدي بوريس يلتسين , و ميخائيل غورباتشوف .
وفي المقابل تساءل الشارع الروسي و كذلك البيلاروسي في الاونة الاخيرة و قبل ذلك عن التحول الذي جرى و يجري في بلديهما من النظام الجمهوري الى الملكوري بدستور يسمح بتداول السلطة كما روسيا ولكن عبر صديق مثل دميتري ميدفيديف , او بدستور عابر للحقب الزمنية كما بيلاروسيا . وفي المقابل تحركت المعارضة في روسيا في مدينة سانت بيتر بورغ شمالا وفي منطقة خاباروف في الشرق الاقصى , و تحركت المعارضة ايضا في العاصمة ( مينسك ) البيلاروسية على وقع نتيجة الانتخابات الرئاسية التي لم ترضي نسبة من الشارع البيلاروسي , ولم تكن المعارضة البيلاروسية تحديدا بريئة حسب وصفة قيادية بيلاروسية و روسية ممثلة ببوتين و لوكاشينكا , و ووزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف . و اصابع التشكيك بتحريك السنة المعارضة و شعلتها توجه دائما لأمريكا , ومن يتعاون معها مثل أوكرانيا و بولندا , و الغرب عموما . وتعامل قاسي مع المعارضة هنا وهناك في روسيا و بيلاروسيا , وهي ظاهرة عالمية بكل الاحوال . وما ساعد على تمويج و خلط العلاقات الروسية - البيلاروسية , ومع الغرب , و امريكا , و بولندا , و اوكرانيا قضيتان لا ثالث لهما : فاغنر ونافالني , و اليكم التفاصيل .
لقد اكتشفت السلطات البيلاروسية مبكرا حراكا لشركة ( فاغنر) ألامنية ألروسية قوامه ثلاثون عنصرا امنيا تواجدو بالقرب من العاصمة البيلاروسية ( مينسك ) , و اشتاط الرئيس لوكاشينكا غضبا بداية , و اعتبره تدخلا سافرا في انتخابات بلاده الرئاسية , وبعد اتصالات له مع الرئيس بوتين اتضح له عكس هاجسه واعفى موسكوا من اي تدخل خارجي فيها . وواصل اتصالاته مع بوتين ,وتلقى منه نصيحة التعامل مع المعارضة البيلاروسية بحزم , و اوضح له و سيرجي لافروف وزير خارجيته وجود تدخل خارجي اوكراني في تحريك شركة ( فاغنر ) التي لم تمثل في حراكها الدولة الروسية بكل تأكيد . وزار رئيس الوزراء الروسي فيكتور ميشوستين العاصمة البيلاروسية ( مينسك ) في الاونة الاخيرة لتعزيز العلاقات الروسية البيلاروسية .
وحديث اعلامي عن تخوف امريكي من الاقتراب الروسي و البيلاروسي من اوروبا حليفة الولايات المتحدة الامريكية الاقتصادية و العسكرية عبر حلف ( الناتو ) ,وتخوف روسي في المقابل من اقتراب الناتو من بيلاروسيا أو زجها في احداث شبيهة بما جرى في اوكرانيا عام 2014 , وله علاقة بالثورة البرتقالية . وتخوف امريكي من مشروع روسيا المسمى بالغاز رقم 2 صوب الاتحاد الاوروبي عبر المانيا مناصفة بين شركتي ( غازبروم الروسية و كونسورنيوم الاوروبية ) , وبكلفة تصل الى 8 مليارات يورو , وهو المنافس لأمريكا في اوروبا مباشرة في مجال مادة الغاز السائلة الهامة .
على الرغم من العلاقات الدافئة بين رئيس الفيدرالية الروسية فلاديمير بوتين و المستشارة الالمانية انجيليكا ميركل , واستقبال دائم لها بالورود في موسكو , الا أن ضبابية جديدة في العلاقات بين روسيا و المانيا بدأت تلوح في الافق أفصح عنها وزير خارجية روسيا لافروف بشأن قضية المعارض السياسي الروسي الكسي نافالني, الذي تعرض لمشكلة صحية فوق مدينة ( أومسك) اقصى شرق روسيا –غرب سيبيريا اثناء اقلاعه على متن طائرة روسية متوجهة الى موسكو بتاريخ 20 اغسطس من هذا العام 2020 , اثبت الاطباء الروس حينها هبوط في سكر الدم , وتم ارساله لمواصلة العلاج الى المانيا , ومن هناك بدأت الاخبار تتوارد على انه تعرض لحالة تسمم في بلاده بمادة روسية معروفة دوليا اسمها NOVIChOK) ( , ومجرد اقتراب الغرب من هذا المصطلح الروسي الرسمي , يتضح لنا بأن الهدف هو اتهام روسيا عن سبق اصرار و ترصد , ومن دون حق , وهو الامر الذي لم يحصل في الواقع . وحسب لافروف فأن المانيا لم تتعاون مع موسكو في موضوع نافالني هذا , وأبدت تحفظا على وضعه الصحي , و اظهرت تعاليا على موسكو , و اعتقدت بأنها تعلم كل شيء عن صحته و لاداعي لأن تخبرها المانيا عن المزيد حول الموضوع , واحتمال أن تمنحه ألمانيا لجوءا سياسيا وارد بعد افاقته من غيبوبته هناك . و في المقابل اظهر الرئيس البيلاروسي لوكاشينكا تعاونا كبيرا مع جهاز المخابرات الروسي ) FCB) بعد اعتياده كقومي سوفييتي سابق و شيوعي , وبلاده على التعامل مع جهاز الاتحاد السوفييتي الامني السابق ) KGB) . وجهاز مخابرات بلاده يدعى ( KGB RB) ,أي اللجنة الحكومية ألامنية لجمهورية بيلاروسيا , وتعاون مع الطاقم الاعلامي الذي زاره في قصر بيلاروسيا الرئاسي تحت اشراف مدير اعلام الكرملين دميتري بيسكوف , و مع القيادة الروسية في قصر الكرملين ممثلة بالرئيس بوتين , ومع رئيس وزرائه ميشوستين ( الذي زار لوكاشينكا مؤخرا في العاصمة مينسك ) , في موضوع نافالني , حيث كشف عن رصد مخابرات بلاده لمكالمة هاتفية مسجلة نوعية بين المانيا و بولندا تثبت بأن نافالني لم يتعرض للتسمم , وبأن الهدف هو تحريك امريكا و اوروبا لفرض عقوبات على روسيا من شأنها اعاقة مشروعها الاقتصادي الحيوي ( غاز 2 ) المتوجه عبر بحر البلطيق الى المانيا و عموم اوروبا , و هو الموازي لمشرع روسيا غاز 1 الموجه لتركيا و جنوب اوروبا عبر البحر الاسود . و بالمناسبة يصعب الربط بين حادثة نافالني و حادثة سكريباليه الجاسوس الروسي البريطاني المزدوج في لندن و ابنته عام 2018 . و للعلم لم تثبت حتى الساعة اية ادانة بالوثائق لموسكو بالحادثتين ألروسية- اللندنية ,و الروسية - ألالمانية . وموسكوا استدعت سفير المانيا لديها جيزا أندرياس لهذا الغرض وبسبب عدم اذعان برلين لمطالب موسكو القانونية بشأن نافالني .
و المعارض الروسي الكسي نافالني مناهض لبوتين و سياسات الكرملين , و سبق له ان قاد مركز مكافحة الفساد في موسكوا العاصمة , و اعتقل عام 2017 وسط مظاهرة جماهيرية عارمة في ساحة بوشكين . و سجن عدة مرات , ويبلغ من العمر 43 عاما , و اعتقل مساعده روسلان شافيدينوف البالغ من العمر 23 عاما , و ارسل للخدمة العسكرية التي كان يتهرب منها حسب قول روسي رسمي . وفي المقابل ستبقى المعارضة البيلاروسية ماثلة و متحركة , وهي تمثل البورجوازية الصغيرة حسب قول للرئيس لوكاشينكا مؤخرا , و تبحث عن السلطة في مينسك العاصمة . وما يتعلق بالمعارضة البيلاروسية سفيتلانا تيخانوفسكايا فهي زوجة رجل الاعمال المعارض المعتقل سيرجي , وسبق لها ان نافست لوكاشينكا على الانتخابات الرئاسية الاخيرة لكنها حصلت على 10% من اصوات الناخبين فقط و غادرت بلادها بيلاروسيا لتستقر في لتوانيا بتاريخ 17 اغسطس المنصرم . و تم ايضا اعتقال احد اهم رموز المعارضة في بيلاروسيا فيكتور بابا ريكا . و يقابل هذه المعادلة وعد جديد للرئيس لوكاشينكا بتعديل دستور بلاده بهدف فتح المجال امام تبادل السلطة , مذكرا ذات الوقت بأنه لن يغادر السلطة و هو المنتخب بقوة من قبل شعبه , و لن يغادر البلاد اي من افراد اسرته كذلك . و ألمح مؤخرا بأن التدخلات الخارجية في شأن بلاده اكثر قسوة و صعوبة من المعارضة الداخلية الممكن السيطرة عليها . و زيارة مرتقبة للرئيس البيلاروسي لوكاشينكا لموسكو, و لقاء مع الرئيس الروسي بوتين لبحث العلاقات الروسية - البيلاروسية , و موضوع شركة فاغنر الامنية الروسية , و ماله علاقة بحراك المعارضة البيلاروسية و التدخلات الخارجية فيها . اخر القول هنا هو بأن الفوبيا الروسية و تبعات الحرب الباردة يصعب ازالتها بسهولة عبر تعاقب الاجيال رغم رفضها من قبل روسيا و بيلاروسيا تحديدا , فمن يقرع الجرس في الانتخابات الرئاسية ألأمريكية المقبلة 3 في نوفمبر 2020 , ويدعو للجمها , و فتح باب التعاون العالمي بالارتكاز على المصالح المشتركة المتوازنة بعيدا عن حلبة الصراعات ومنها سباق التسلح باهض الثمن , في الوقت المحتاجة فيه البشرية للتنمية الشاملة المستدامة ؟ دعونا نتأمل.