قصر برقع وكرم أهل البادية
عبدالرحيم العرجان
12-09-2020 11:07 AM
زيارة تشبه قصص سندباد، قصر شامخ بقلب الصحراء تظهر معالمه فجأة بجانب بحيرة عظيمة بعد طول مسير، في أقصى الحدود الشرقية الماذية للساتر الترابي للمحمية ، وليس ببعيد عن الحدود السورية والعراقية، ذكرته "ملكة الصحراء" بيل وأعجبت بليله، واستجم وسكنه أمراء الأمويّن، ولليوم ماءه مقصد للبشر وما خلقه الله من طيور في طريق هجرتها عبر قارات العالم القديم.
أربعة ساعات من القيادة الليلية على الطريق الدولي مابين عمّان وبغداد للوصول لنقطة البداية مع الفجر، ليكون الانطلاق والمسير مع تدرج درجات الحرارة والتكيف معها في طريق يخلو تماماً من أي مكان يمكن الاستظلال به فلا شجر أو تشكيل صخري يمكن اللجوء إليه لأخذ قسط من الراحة وتبريد حرارة الجو فالفيافي بكل ما فيها ملكك.
بمسار واحد للذهاب والعودة، بخط مستقيم دون أي تغير في التضاريس، فلا انخفاضات ولا ارتفاعات ولا حتى انعطافات نهائياً، الأمر الذي يجعله من مسارات التحمل كون عدد محدود من عضلات جسمك تتحرك برتابة، ثمانية ساعات من المشي المتواصل على أرضٍ صحراوية ضمن حوض الحماد المائي ما بين نهايات الحرة البازلتية والحماد، وهيا الأرض التي كانت زاخرة بالبشر ما قبل الحضارة وأقدم العصور وما تركوه لنا من كتابات ناطقة ومرسومة: صفائية، يونانية، ثمودية، عربية وغيرها من الالسن ووثقتها الرحالة المستشرقة جير ترود بيل في مجموعة رسائلها الشهيرة عندما خيمت إلى جانب القصر في شتاء عام 1913، في الطريق القادم من دمشق الى أمير الرشيد بحائل؛ فذكرتْ أن وضوح النجوم والأبراج السماوية هناك من أجمل ما شاهدته في رحلتها التاريخية وأصدر لها فيلم شهير حَمِل لقبها " ملكة الصحراء"حيث يمكن استغلال قصة رحلتها للترويج السياحي للمكان على نطاق عالمي.
خلال الستة وعشرين كيلومتر ذهاباً وإياباُ ضمن الطريق التجاري القديم مابين بصرى وتدْمر في أرض الغساسنة إلى عاصمة العرب الأنباط، لابد أن تلمح الكثير من المشاهدات من قبور ومدافن من عصور مختلفة بنيت من حجر البازلت الاسود ومراجم دائرية بأحجام وارتفاعات مختلفة، لتصل إلى وادي مقاط الشبه منخفض وما بينه وبين الغدير يقع القصر الذي يظهر إليك فجأة ببرجه الشاهق وبنائه الضخم، يستوقفك بدهشة -دهشة جمال- سواد بناءه وتحاوره المكان المتجانسة مع بحيرة السد ببنائة الروماني القديم والحديث وفيضة الفارس الشيخ أورنس (حمد) بن طراد الشعلان من غربة المقصودة من طيور وحيوانات من بط وبشلون، ونوارس والقلق بلونيه الأبيض والأسود، والقط الرملي والوشق، والذئب الرمادي والثعالب، فهي الأرض التي كانت موطن للمها والغزلان والنعام وغيرها، ومنذ ثلاثة أعوام أصبحت محمية طبيعة تحت إدارة الجمعية الملكية لحماية الطبيعة.
ولأهمية موقعه التجاري والعسكري والاستجمام بخلوته الدينية، نلاحظ تداولْ ومرور عدد من العصور عليه وتطور واضح في البناء من نبطيّ، بيزنطيّ، رومانيّ، اسلاميّ حيث كتب على مدخله أمير المؤمنين الوليد بن عبدالملك اسمه ولقبه أسفل البسملة؛ أما اليوم فقد أصبح مقصد للاستجمام بشكلٍ محدود جداً من أهالي المنطقة الكرماء الذين يتزودوا من ماء سده ونبعه، فخلال مسيرنا واستراحتنا إلى جانب السد كانوا يعرضوا الماء البارد ويصروا على أخذه وأن نطلب أي مساعدة ودعوتهم لتناول العشاء بعد انتهاء مهمتنا كوننا في أراضيهم ومضاربهم، فهذه مكارم الأخلاق وشيم العرب وأهل البادية.
أما بناء القصر والسد الذي تتشكل منه البحيرة، والذي يسميه أهل المنطقة "بقصر الطنيانة" فقد جُلبت حجارته من مقلع قريب وقُصت وشذبت بمربعات بكل عناية ودقة ليكون البناء من ثلاثة طوابق بسقوف معشّقة بعروق من نفس الحجر الصلب والذي للأسف هُدم معظمها قبل مائة عام بسبب الزلزال وتخريب المهوسيّن بالبحث عن الذهب والدفائن.
ودعنا القصر وعدنا من نفس الدرب بروعة المكان وعيوننا تنظر إلى الخلف، لحين اختفى بثنايا الوادي على أمل العودة بالربيع القادم للمبيت ورصد الطيور المهاجرة ومشاهدة ما تغنت به بيل وللتعرف أكثر على أهالي المنطقة.
أما احتياجات المسار لإتمامه فهي أربعة لترات من الماء، وعصيرٍ وبعض الفواكه الطازجة والمجففة، بالاضافة الى حذاء ذو كعبٍ عريض متوسط المرونة ويفضل أن يكون واسع قليلا كون القدم تتمدد بالمسار الطويل.