فيروز وماكرون .. عن جدلية السياسة والفن
محمد جميل خضر
05-09-2020 01:39 PM
عمون - ما الذي (كان) يريده ماكرون من فيروز؟ لا ليس هذا سؤالي، وربما سؤالنا، بل هو: ما الذي (لم يكن) يريده ماكرون من فيروز؟
ما لم يكن يريده الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال (اختطافه) فنجان قهوة في بيت الفنانة اللبنانية فيروز، أن تحوّل سيدة البهاء والجلال الـ 75 دقيقة التي احتاجها فنجان القهوة المسروق من زمن بيروت ولبنان، إلى استعراض مسيرة فنية حافلة عمرها 75 عامًا، مرّت سفيرة الحياة خلالها على معظم العواصم العربية، متوقفة، كثيرًا، عند أبواب فلسطين ومدنها وأيقوناتها، متجوّلة مرّة في شوارع القدس العتيقة، صارخة في أخرى: "سيفٌ فليشهر"، إلى أن تقول: "الآن.. الآن وليس غدًا أجراس العودة فلتقرع"، وتقول: "أنا لن أنساك فلسطين"، معبرّة في ثالثة عن طوقها لزيارة بيسان "خذوني إلى بيسان"، متأمّلة في رابعة أحوال الطفل في مغارة بيت لحم وأحوال أمّه مريم: "الطفل في المغارة وأمّه مريم وجهان يبكيان.. لأجل من تشرّدوا.. لأجل أطفال بلا منازل.. لأجل من دافع واستشهد في المداخل.. واستشهد السلام في وطن السلام وسقط العدل على المداخل". وفي اندفاعةٍ ممكنةٍ خلال استعراضها مسيرتها، ربما كان أخشى ما يخشاه أصغر رئيس فرنسيٍّ (عمرًا)، أن تَقُصَّ الصبيةُ الثمانينيةُ عليه حكاية ألبومها "راجعون" (1957) من (طقطق) "أحترف الحزن والانتظار" التي كتبها الرحابنة لعيون خيام اللاجئين الساكنين في الغياب مرّتين، الما تزال أرضهم في بالهم، ولسمرة خصبها يحترفون الحزن والانتظار، إلى (السلام عليكم) "جسر العودة" وبينهما: "بعدنا، من يقصد الكروم"، "يا جسرًا خشبيًّا" و"راجعون" التي يحمل الشريط اسمها، وتتجلى خاتمتها بوصفها (مانفيست) عودة محتّمة، وبذور وعدٍ لا يموت ولا ينتهي بالتقادم:
"بلادي أطلّي قليلا فإنّنا راجعون
في هدأة السكون في رهبة الحصون
أصحابنا على الطريق الرحب يهتفون
في الأمطار راجعون في الإعصار راجعون
في الشموس في الرياح في الحقول في البطاح
راجعون راجعون راجعون
بالإيمان راجعون للأوطان راجعون
في الرمال والظلال في الشعاب والتلال
راجعون راجعون راجعون".
بين الفنان والسياسي
تستدعي الزيارة التي "ملأت الدنيا وشغلت الناس"، إعادة قراءة المسافة بين السياسة وبين النغم، بين الفنان وبين السياسي، بين ماكرون ابن توافقات اللوبيات، الذي أوصلته لعبة الجهات (يسار/ يمين)، إلى قصر الإليزيه، وبين فيروز صانعة التوافقات، وابنة الأزمنة جميعها، وربما بوصلة كل الجهات.
لن أخوض بتفاصيل الزيارة، الشحيحة على كل حال، بسبب حجب عيون الإعلام الفضولية عنها، ولا بتفاصيل ابتسامة فيروز، المبتسمة على الدوام عندما يتعلق الأمر بضيف يلج عتبة بيت الرابية عند أطراف بيروت شمالًا، حيث أنطلياس فوق الشمس رابضة هناك، تعيد رسم الهضاب والبيوت ذات السقوف الحُمر، وتغازل البحر والليمون. ولن أجعل معترك مساحتي هنا حول اللوحة خلف الفنانة والسياسيّ، من رسمها؟ هل هي التشكيلية الكرواتية جوستينا سيسي توماسيو سرسق، التي أهدتها لفيروز، بحسب عديد القنوات والصحف والمواقع الإخبارية والاجتماعية، التي تأخذ من بعضها دون أن تشير واحدة منها إلى المصدر الأصلي، عام 1980؟ أو غيرها؟ ولا حول اللوحة الثانية التي حملها مرافقو الرئيس ملفوفة غير معلنة، على أنها هدية، يُفترض، من سيدة البيت إلى سيد الإليزيه، ما هي؟ وهل هي اللوحة الفيروزية نفسها؟ وحتمًا لن أذهب بنفسي، وبكم، إلى البحث في حيثيات ما دار في هذا اللقاء الذي تأخر عن موعده المحدد ساعة وربع الساعة، واستمر ساعة وربع الساعة، فهي الحيثيات التي لن يسعفنا أحد بتمرير بعض أطرافها، فنحن حتى لم نحظ بصورة لجلسة فنجان القهوة الذي غرّد ماكرون معلنًا أنه على موعد معه في ضيافة الأيقونة الباقية.
سأترك الزيارة مبحرًا في تداعياتها، متسائلًا ما الذي يريده السياسي من الفنان؟ وما الذي ينتظره الفنان، بالمقابل، حين يضع عنبه، أو بعضه، في سلّة السياسيّ؟
يرى الباحث الفلسطيني د. إسماعيل الناشف، أستاذ العلوم الاجتماعية بمعهد الدوحة للدراسات، أن الفن "لا يتعامل، بالضرورة، مع اليومي والمباشر"، ويذهب، في واحدة من حلقات برنامج "في العمق" الذي كانت تعرضه قناة "الجزيرة"، إلى أن ما يضبط علاقة الفن بالسياسة هو النظام الاجتماعي العام، بمعنى أن التعبير عن الإشكالات الأساسية الموجودة في المجتمع، والتناقضات التي يعيشها، والأسئلة الكبرى: الخير، الشر، الموت، الحياة، الفقر والحرية وغيرها، يتباين بين السياسي والفنان، ففي حين أن السياسي يعد بتقديم إجابات فورية مباشرة، فإن الفن لا يفعل ذلك. وهو ما يؤدي، بحسب الناشف، إلى تباين جهات التلقي، وانحسار تلك الجهات بالنسبة للفن والفنانين على جمهور نخبويّ، وفئات مجتمعية بعينها، مقابل ما يمكن أن يحققه السياسيّ القادر على إقناع العامة حول نجاعة إجاباته الشافية المباشرة لأزماتهم، من شعبية، قد تتحول، في ظروف بعينها، إلى شعبية قطيعية.
الناشف يوضح في الحلقة أن الفن يتميز عن غيره من الحِرَف أنه يعمل على إنتاج قيمة إضافية، كما يطرح التناقضات الأساسية التي لا يستطيع المجتمع حلها بشكل مباشر، مقترحًا حلولًا ممكنة لها، بينما يسعى السياسي للسيطرة والتحكم في القيمة الإضافية للعمل الفني لغايات تعزيز نظام الحكم.
من جهته، وفي الحلقة نفسها، يستعرض الباحث والأكاديمي السوداني د. النور حمد إرهاصات علاقة الفن بالسياسة، قائلًا إن الفن عمل في العصور الوسطى تحت مظلة الدين (الكنيسة)، وأن "الدائرة الملكية" the royal court الخاصة بالقبائل والسلطانات الأفريقية القديمة، على سبيل المثال، سعت منذ أزمان بعيدة، لتوجيه الفن واحتواء الفنانين واستقطابهم، لاعتقادهم أن الفن يضفي على السلطة شيئًا من الهيبة.
حمد يقول في سياق متصل: "الفنانون كانوا مخطوبين على الدوام إلى السلطة"، رائيًا أن هذا لا يعني بالضرورة توجيه الفنانين نحو إرسال رسائل سياسية مباشرة، ولكن "مجرد اقتراب سياسيٍّ ما، من فنانٍ ما، يسهم، عادة، في كسب جمهور هذا الفنان".
شواهد كثيرة، يضعها نقاد وموسيقيون، في خانة علاقة الموسيقى والغناء بالسياسة: "افتتاحية إجموند" لبتهوفن حول الصراع من أجل الحرية في عصر نابليون. صوت بول روبنسون يشدو بأغان سياسية. أغنية "الفاكهة الغريبة" لبيلي هوليداي التي تهاجم كلماتها عقوبة الإعدام شنقًا في الولايات الأميركية الجنوبية. الأغاني السياسية لبوب ديلان مثل: "مطر كثيف" و"أمراء الحرب" و"مجرد رهن في لعبتهم". أغنية "الخلاص" لبوب مارلي، ونشيد "بيلا تشاو" الإيطاليّ السرمديّ عن الثورة وأعالي الجبال والحب وسط حشود البنادق، وقائمة تطول، وتطول، من أغنيات وأناشيد وأهازيج عربية بالفصيحة واللهجات المحلية جميعها.
السياسة والثقافة
لأن الشيء بالشيء يذكر، فإن علاقة السياسة بالنغم، تأخذنا، بالضرورة، إلى جدلية أخرى هي علاقة السياسة بالثقافة، وهي العلاقة التي حُبّرت حولها آلاف الصفحات.
يقول الكاتب والأكاديميّ اللبنانيّ د. وجيه فانوس: "إنَّ العلاقة بين الثَّقافة والسِّياسة، علاقة جدلية تنبثق منها إشكاليَّة معقَّدة ومركبة، تنتهي في الغالب إلى صراعٍ مريرٍ بين طرفيّ المعادلة: "سلطة الفكر" و"سلطة السِّياسة". بيد أنَّه لا يجب النَّظر إلى هذا الصِّراع على أنَّه صراع إلغائي على الإطلاق؛ إذ لا بدَّ من اعتبار أنَّ ثمَّة ترابطًا وتأثيرًا متبادليْن، بين ما هو ثقافيّ وما هو سياسيّ؛ ولعلَّ في أحداث التَّاريخ الإنسانيّ السِّياسيّ ما يؤكد ذلك، وتحضرني هنا مقولة للمفكر الجزائري مالك بن نبي (1905-1973) مفادها أنَّ الفكرة لا تقاوَم، إلاَّ لأنَّها العاملُ الفعَّال المُحَرِّض في الحياة السِّياسيّة".
المفكر البريطاني تيري إيجلتون سعى في كتابه "فكرة الثقافة"، إلى إعلاء الثقافة على السياسة: "أن نعلي الثقافة على السياسة، يعني أن نكون بشرًا أولًا، ومواطنين ثانيًا، وأن ندفع السياسة، ثالثًا، إلى أن تتحرك ضمن بُعْدٍ أخلاقي عميق".
إيجلتون ينتقد في كتابه "تسييس الثقافة"، لأن هذا التسييس يجرّد، كما يرى، الثقافة من هويتها ويدمّرها.
الكاتبة رسمية محمد تبدو، في مقال لها، أكثر تشاؤمًا، رائية أن العلاقة بين المثقف والسياسي "لم تكن متكافئة في أي وقت من الأوقات"؛ وأن السياسي (صاحب القرار) يعتمد على "قوى تقليدية لا علاقة لها بالثقافة بمفهومها المعرفي، وبالتالي فإن السياسي المحترف لا يتعامل مع المثقف بنديّة، بل يرى أن دور المثقف ينحصر في تبرير السياسي، في حين أن الابتعاد عن السلطة، والاحتفاظ بمسافة بين المثقف وبينها، حلم مطلوبٌ وعقلانيٌّ، إذا اتيحت الفرصة للمثقف لأن يقيم مثل هذه المسافة". وهي توضح أن السلطة التي تعنيها هنا لا تقتصر على النظام الحاكم فقط، وإنما "تشمل المؤسسة الحزبية (موالاة ومعارضة)، والسلطة الدينية، وسلطة الرأي العام، والتقاليد السائدة، وحتى سلطة الخطاب الثقافي نفسه".
عربيًّا، شهدت علاقة السياسة بالنغم مدًّا وجزرًا، فواجهت الأنظمة المدَّ بالجزرة، والجزْر بالعصا. ولست أبالغ حين أقول إن ثورة 23 يوليو المصرية لم تكن لتصلنا بكل هذا العنفوان، لو أن الموسيقار محمد عبد الوهاب لم يقدم لها أعظم ما في جعبته وحنجرته من تهليل (مغناة "الجيل الصاعد" التي شاركه فيها حشد من كبار المطربين والمطربات، نموذجًا)، ولو لم تفعل أم كلثوم الأمر نفسه "أصبح عندي الآن بندقية" لنزار قبّاني، ويلحقهما عبد الحليم "خلّي السلاح صاحي". أغنياتُ تحشيدٍ في الحرب، وتمجيدٍ في السلم، لوّنت مرحلة عبد الناصر بألوانِ تبعيةِ النَّغمِ للسياسة، دون أن ننكر العاطفة الجياشة نحو فلسطين أيامها، بوصفها البوصلة التي لم يكن يجرؤ أن يختلف عربيان حولها:
"إلى فلسطين خذوني معكم
يا أيها الرجال..
أريد أن أعيش أو أموت كالرجال
أريد.. أن أنبت في ترابها
زيتونة، أو حقل برتقال..
أو زهرة شدية
قولوا.. قولوا لمن يسأل عن قضيتي
بارودتي.. صارت هي القضية".
إلى أن يقول نزار وتقول (السيدة) معه:
"يا أيها الثوار
في القدس، في الخليل،
في بيسان، في الأغوار..
في بيت لحم، حيث كنتم أيها الأحرار
تقدّموا.. تقدّموا.. تقدّموا.. تقدّموا..
إلى فلسطين
طريق واحد
يمرُّ من فوهة بندقية"..
حيث يبدو أن مستلزمات اللحن حذفت من القصيدة مقطع: "فقصة السلام مسرحية والعدل مسرحية"؟!
على الجهة الأخرى، انتشرت في القرن التاسع عشر، بحسب الكاتب الاشتراكي البريطاني جون مولينو، مقولة "الفن من أجل الفن"، وهي مقولة تكرّست أيامها، كما يرى مولينو، بسبب انعدام ثقة الناس بالسياسة والساسة، ولأن السياسة "مجرد لعبة قذرة، تدور، في معظم الحالات، حول النفوذ والسيطرة".
عكّازة ماكرون..
ماكرون الذي نسي قدمه اليسرى (بحسب إذاعة مونتي كارلو الدولية)، ومشى بعد فوزه، رغم وعوده الانتخابية أن يسير "إلى الأمام" (الحزب الذي أسّسه قبل فوزه بعام)، بقدمين متوازنتين بين اليمين وبين اليسار، على قدمه اليمنى فقط، السائرة بمختلف إصلاحاته (المعقدة) نحو إيسار الموسرين وإعثار المتعثرين، فعل، على ما يبدو، الأمر نفسه، عند دخوله بيت الرابية السهل الممتنع، متعكِّزًا على إرث المعزّب (صاحبة الضيافة)، وليس على سمعة الضيف، فهي سمعة مشوبة بلوبيات متناقضة، لعب المفتش المالي (أول وظيفة إدارية تقلّدها ماكرون)، على تناقضاتها، وممسوسة بعمله في بنك يحمل اسم (روتشيلد)، ولا أظن فلسطينيًّا/ عربيًّا واحدًا يمكن أن ينسى مستهل الوعد المشؤوم: "عزيزي اللورد روتشيلد"!
ولا مرَّةً كانت فيروز بعيدة عن السياسة.. ولا مرَّةً كانت فيروز قريبة من الساسة. وخلال أزمات لبنان جميعها، ظلّت على مسافة واحدة من زعماء الطوائف، وأمراء الحرب، وأصحاب الدكاكين الحزبية. نأت بنفسها وبصوتها عن الارتهان لجهة أو طائفة أو فصيل. وحين سألها سائل، يُقال: مع من أنت في هذه الحرب الدائرة أوزارها؟ أجابت: أنا مع لبنان.
وما لا يريد سماعه الضيف حتمًا، أغنيتها "إسوارة العروس" المشغولة بالذهب، فيما تراب الجنوب "مشغول بقلوب"، ورسائل الغيّاب مكتوبة بالسهر، فيما "بالعز مكتوب" تراب الجنوب، إلى أن تقول: "ويا شعب الشعوب الأقوى من الحروب، بتبقى إذا بيبقى يا شعب الجنوب".
يقول إنه يعشق أغنيتها "لبيروت"، فهل اختبر تماهي العاشق مع المعشوقة، كما في حالة الفنان التشكيلي البريطاني توم يونغ، وتعلقه الولهان ببيروت؟ هوى جعله يتعلم العربية ويتحدث في تقرير بثه برنامج "المرصد" بها، مستعينًا بلهجة لبنانية صادقة، قائلًا: (أنا بحب لبنان كتير. بحب حياتي هون.. بعد الانفجار صرت أشعر بلبنانيتي أكثر).
يونغ المقيم في لبنان منذ قرابة العشرة أعوام، الذي شاءت الأقدار أن يكون بعيدًا في مدينة صيدا لحظة الانفجار، عاد إلى منزله في الجميزة، فوجده مدمّرًا بالكامل، ورأى أن بعض اللوحات، صارت، كما يبوح، أكثر حقيقية، بعد اختلاط حطام الانفجار وبقايا الزجاج بتفاصيلها، وأن شظايا الجرح الدامي التي أصابت اللوحات، تحوّلت إلى شاهد مرير على العنف والدمار.
يقول يونغ: "أريد أن أرسم المأساة والألم، ولكن أيضًا أريد أن أرسم الأمل". ثم يكمل: "يقولون إن الساعة الأكثر ظلامًا، هي تلك التي تأتي قبيل الفجر، دعونا نأمل أن ذلك صحيحًا". دون أن ينسى الإشارة إلى علاقته الطيبة مع الناس.. مع بيروت. خاتمًا بوجعٍ وحرارةٍ عربية: (خلص بكفي عن جد. إن شاء الله تصير بيروت بخير).
لم يكن ماكرون قد وُلِدَ بعد، حين قامت فيروز بأول زيارة إلى فرنسا، ملبية في عام 1975 (ماكرون من مواليد 1977)، دعوة صديقتها الفنانة الفرنسية الشهيرة ميراي ماتيو لها، كي تكون ضيفتها في البرنامج التلفزيوني "سبيسيال ماتيو" الذي كانت تقدمه ميراي أيامها. في تلك السهرة المفعمة بالحب والسلام غنت فيروز "حبيتك بالصيف حبيتك بالشتي".
ثم هل يعلم أن فيروز غنت لباريس: "باريس يا زهرة الحرية يا ذهب التاريخ يا باريس.. لبنان بعتلك بقلبي رسالة محبة.. بيقلّك لبنان رح نرجع ونتلاقى.. عا الشعر وعا الصداقة.. عا الحق وكرامة الإنسان"؟ لعله يعلم، فهو لا بد راجع قبل زيارته البيت الجامع، بعض تفاصيل علاقة فيروز بفرنسا عمومًا، وباريس على وجه الخصوص، وعرف، ربما، أنها ليست المرّة الأولى التي يُطوِّقُ بها وسام فارس جوقة الشرف (أرفع وسام فرنسي) إطلالة فيروز، فقد منحها إياه قبله الرئيس الفرنسي جاك شيراك (1932-2019)، في عام 1998، "لشجاعتها"، ولأنها "أبت إخضاع صوتها إلا لوحدة اللبنانيين". ما يسجل لماكرون، كي نبقى في إطار الأمانة والموضوعية، أنها المرّة الأولى التي يذهب فيها المكرِّم للمكرَّم، وأنها السابقة التاريخية التي يدق فيها الوسام الرفيع باب بيت الممنوح له، طالبًا الإذن بالدخول، ومعانقًا صدر المجد.
فلسطين التي لم تغب عن البال
هل يعلم من رفض التعليق على الاعتراف بدولة فلسطين، أن فلسطين لم تغب عن بال فيروز، كما لم تغب عن بال اللبنانيين جميعهم على اختلاف طوائفهم وأطيافهم؟ ماذا يعرف عن أغنية "أنا والمساء والأردن" (1957)، التي صدحت بها فيروز في بداياتها، وبدايات الأخوين معها؟
"بلادي
وتورق العشيات بالحب والتعليلات
فأرويها ملء فؤادي
أنا من أنا؟
وريقةٌ هُنا
على تراب الوادي بحضن بلادي"
ثم كورال الرجال بلحن رشيقٍ شجيّ:
"بيّارتنا زرعناها مدّ العين فرشناها
سيجناها حميناها بيّارتنا زرعناها"
ليرد عليهم كورال النساء:
"قصب السكّر ماج وطاف
كضفاف تلهو بضفاف"
ثم الرجال:
"نهواها.. نرعاها.. ونغني بحناياها"
ثم الرجال والنساء معًا:
"بيّارتنا زرعناها مدّ العين فرشناها
سيجناها حميناها بيّارتنا زرعناها".
إلى أن يأتي دور فيروز مرّة ثانية:
"وفي البال بيّارات تلوح وراها الروابي
كمن هي في ضبابِ
وأشجارها بكيّة يهاجر منها يَمامِ
يجيءُ يرفُّ علينا يقول حنّت إلينا
ويبكي ويهدي سلام
سنرجع كل الترابة ونهزم تلك الضبابة
ويوم نعود ونحيا.. نغني على كل دنيا
بيّارتنا زرعناها
سيجناها حميناها بيّارتنا زرعناها".
خاتمة:
"أنا والمساء على بابي
والخير الأردن يسقي ترابي
أنا والمساء وسراجي
ونهرنا الأردن يروي سياجي".
ماذا يعرف صاحب كتاب "الثورة" عن فيروز، وعن أغنيتها "سنرجع يومًا إلى حيّنا.. ونغرق في دافئات المُنى.. سنرجع خبّرني العندليب.. غداة التقينا على منحنى"؟ وما هي الثورة التي أشعلها الشاب الأربعينيّ في بلده، غير ثورة أصحاب السترات الصفراء التي تفجّرت في وجهه ووجه نظامه (الإصلاحيّ) للضرائب؟
ماذا يعرف الصامت يوم الباستيل عن الصادحة باسم ثورات الشعوب جميعها؟ وهل يعرف أنها غنّت للمناضلة جميلة بوحيرد، صديقتها تقول، وإحدى أيقونات مقاومة الاستعمار الفرنسي للجزائر:
"جميلة، صديقتي جميلة، تحية إليكِ حيث أنتِ
في السجن في العذاب حيث أنتِ
تحية إليك يا جميلة، من ضيعتي أغنية جميلة
وخلف بيتي لوزة تزهر وقمر أخضر
وموجة رمليّة من شطّنا تّبحر
تحية إليك يا جميلة، يا وردة الجزائر الجميلة".
إلى أن تقول: "تحية إليك للحرية، تحية لكل شعبٍ صالحٍ يطمحُ بالحياة والسلام". أما المفارقة اللافتة، فهي أن "صديقتي جميلة" و"باريس" كانتا، كلاهما، من ضمن برنامج أغنيات حفل الأولمبيا الباريسيّ الذي أحيته فيروز في عام 1979.
ولكن، ربما، علينا قبل أن نسأل ماذا يعرف ماكرون عن فيروز، أن نسأل ماذا يعرف عن مغنية بلده إيديث بياف (1916-1963)، المنسلة من الساحات الخلفية للمدن الكبرى، الصادحة بآهات الألم والحب واللوعة، "العصفورة الصغيرة"، التائهة في شوارع الازدحام البارد المريع؟
إذا تعاملنا مع وزير الثقافة، أي وزير ثقافة، بوصفه سياسيًّا، فإن شهادة جاك لانغ الذي كان وزير ثقافة فرنسا عندما اعتلت فيروز منصة مسرح بيرسي الشهير في عام 1988، تصبح شهادة سياسيٍّ يقرّ بأسبقية الفنان وسرمدية النغم: "صوتك سيدتي برهانٌ حي عبر عشرات السنين على التكامل الضروري والمثري للثقافات. جعلتِ من نفسكِ ليس فقط سفيرة لبنان إلى النجوم، ولكن أيضًا رمز مجموعاتٍ ترفض أن تموت. صوتك يملك نقاء البداهات الأولى، البداهات التي لا تسمح بأي تناول، وأي تواطؤ. إنه يشع بهذا التأثير الذي يعجز اللسان عن وصفه، وتنشره عطور لبنان وألوانه. إيقاعه استثنائي فعلًا، لأنه لا يمكن الاستماع إليكِ دون الاحساس بتأثير كبير، حتى وإن لم أفهم، سيدتي، كلمةً واحدةً من لغتك".
المفارقة الدالّة هنا، أن لانغ لم يشيّد سرديته حول فيروز وفنّها، بعدما أصبح وزيرًا وأحد أقرب المقربين للرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران (1916-1996)، بل تعود جذور معرفته لها، واقترابه من تجربة الرحابنة وخصوصيتها، إلى نهاية خمسينيات القرن الماضي، عندما جاء لبنان ممثلًا شابًّا، ومؤسس فرقة مسرحية شابة، وهو لم يتجاوز العشرين من عمره.
وكان حضور لانغ وفرقته تلبية لدعوة من الفنان التشكيلي اللبناني ميشال بصبوص، للمشاركة في مهرجان "راشانا" الذي كان ينظمه بصبوص أيامها، بعرض مسرحيّ عن نص لإسخيلوس، وتشاء المصادفة المفعمة بالمعنى، أن يحضر عاصي وفيروز العرض المسرحي، فيفرح بهما الشاب الذي كان قد سمع عنهما، ويزداد سروره عندما دعياه إلى حضور حفل لفيروز والرحابنة على مسارح بعلبك. إنه الحفل الذي جعل لانغ يعلق قائلًا: "أشعر كما لو أنني في الجنة"، واصفًا فيروز أنها ذات "صوت ذهبي، وصاحبة سحر يحلق بنا، بفضل المعجزة الربانية التي تجسدها".
عدد قليلٌ من الناس (السفير الفرنسي لدى لبنان برنار فوشيه، ومحامي جارة القمر فوزي مطران، وريما يللا تنام) شارك ماكرون زيارته وفنجان قهوته مع صاحبة أغنية "في قهوة عالمفرق.. في موقد وفي نار.. كنا أنا وحبيبي نفرشها بالأشعار.. جيت لقيت فيها عشاق اتنين صغار.. قعدوا على مقاعدنا.. سرقوا منّا المشوار". فهل أراد منتقد الخصب الأفريقيِّ بـ 75 دقيقة، أن يسرق 75 عامًا من مشاوير فيروز (85 عامًا) نحو كحلون وميس الريم وبيت الدين ووادي الضيم ودمشق وعمّان وبغداد وتونس والجزائر وشواطئ الزمان؟
وما هو الدرس الذي حمله معه من بيت الصُّوَرِ والذكريات ومسبحة الفيروز، وهو يبحث عن أرضٍ محايدةٍ يزرعُ فيها أرزةً، في بلد أرهقه تجيير كل جهةٍ أرزَهُ لها؟
من يُكرّم من؟
هل يحتاج الفنان/ الجذريّ/ العضويّ/ المثقف إلى وسام رفيع أو قلادة رمزية أو ميدالية ذهبية؟
لا أحد يكره التكريم، ولكنَّ أسوأ أنواع التكريم، باعتقادي الشخصيّ، تلك التي لا تأتي عن معرفة عميقة بمنجز هذا الفنان أو تلك الفنانة. على الفنان النبيل الكريم أن لا يفرح بالتكريم المنساق إلى منطقة حجزه، وتكبيل فضاءاته، تحت عنوان المثل الشعبي القائل (طعمي التم بتستحي العين)، مع فارقٍ (جوهريٍّ) (بسيط) أن ساسة الكوكب/ القرية يريدون للسان هذه المرّة (لا للعين) أن يستحي، وللحناجر، على أمل أن لا تصدح، في خضم خجلها، مغنية للشعوب.. للحرية.. للكرامة والحياة.
ويبقى السؤال: ما الذي يريده ماكرون من فيروز؟ أم أن الأمر لا يعدو سوى تكرارٍ معلوكٍ لاستعجال السياسيِّ قهوةَ الفنونِ جميعها؟
العربي الجديد