في حضانات الأطفال وأركان اللعب، يجري استخدام الألوان لإثارة البهجة وتدريب الأطفال على التمييز وقياس قدراتهم على الإدراك. غالبا ما يبتهج الآباء والأمهات عندما يتعرف صغارهم على الألوان ويستطيعون تمييزها. قبل عقود كان لي صديق مبدع ظل ينتظر أن يرزقه الله ذكرا، فحصل له ذلك بعد أن أنعم الله عليه بثلاث إناث.
في تلك الأيام كانت بهجة صاحبنا لا توصف، فقد كان يمضي ساعات طويلة كل يوم وهو يحادث طفله الصغير في محاولة لاستكشاف قدراته العقلية وليثبت لنفسه ولنا أن مهند طفل استثنائي. الألعاب التعليمية والألوان والاختبارات المتوفرة في البلاد كانت وسيلة صاحبنا في مسعاه للتحقق من قدرات الطفل الذي بقي تحت مجهر الوالدين.
ذات يوم جمعنا والد الطفل ليبرهن لنا صحة نبوءته، فبدأ سلسلة اختباراته للطفل الذي لم يتجاوز الثانية من العمر. لإتمام العرض أحضر صاحبنا عددا من الكرات المطاطية الملونة وأخذ يمارس هواية طرح الأسئلة على الصغير وسط ترقب ودهشة الحاضرين من حماس الأب الزائد ولهفته واستعجاله.
ما إن فرغ الأب من تأمين الطفل ووضعه في زاوية، تمكن الجميع من أن يشاهدوه حتى باشر بفرد الكرات المطاطية وسؤال الطفل الرضيع “بابا وين الأخضر…؟” بلا تردد يمد الصغير يديه ويلتقط الكرة السوداء وسط ضحكات وتصفيق الجميع وأصوات تحليلاتهم وتبريراتهم لعبقرية الطفل، فيعود الأب بعد أن يلقن الصغير ويقرب الكرة الخضراء منه قائلا “بابا حبيبي وين الأخضر…؟” ليعود الطفل ويمسك بكرة من لون آخر.
الأب والأم والأسرة كانوا يقنعون أنفسهم بأن الصغير عبقري وقادر بعكس ما أظهرته الاختبارات التي أدارها الأب الذي بدا مصرا على أن يظهر عبقرية الطفل رغم أنه ما يزال بحاجة لأن ينمو ويكبر قبل أن يوضع في هذه المواقف التي لم يهيأ لها.
الألوان الخضراء والحمراء التي ألفنا استخدامها ورمزيتها تدخل اليوم الى مصفوفة الحكومة الأردنية بمعايير ومواصفات تختلف قليلا عما نعرفه. الحكومة التي تشددت كثيرا في الأيام والأسابيع الأولى لتعاملها مع الجائحة تعمل على وضع معايير جديدة لاستقبال القادمين من بلدان العالم أيا كانت حالتها. في المعايير والاشتراطات التي قدمت في المؤتمر الصحفي الذي عقد الخميس سيفتح المطار اعتبارا من الثلاثاء المقبل ويسمح للجميع بالدخول الى البلاد بعد إجراء فحص أولي في بلدان المغادرة وآخر عند وصولهم للمطار.
القادمون من المناطق الخضراء سيذهبون في سبيلهم بعد إجراء الفحص الذي لا تتجاوز نسبة الصدق والثقة فيه الـ70 %، في حين سيمضي ضيوف المناطق الصفراء ثلاثة أيام في الحجر ويمضي الضيوف من المناطق الحمراء أسبوعا واحدا.
المعايير الجديدة تبدو غريبة مقارنة بالبروتوكول الذي أقنعتنا الحكومة بأهمية احترامه وتطبيقه على الآلاف من الطلبة والقادمين خلال الأشهر الأولى من انتشار الجائحة. في ثقافتنا كان الأخضر وما يزال إشارة تسمح للأشخاص والمركبات بالمرور، في حين أن الأصفر يرتبط بحالة التحول ما بين المرور الآمن واللامرور، أما الأحمر فقد كان وما يزال اللون المعبر عن الخطورة.
أستغرب كيف سيحاصر الأردن الوباء وهو يفتح الحدود التي كانت سببا في انتقالنا من حالة الصفر الى ما يقارب الـ70 حالة يوميا وكيف سيسهم تخفيض مدد الحجر للقادمين في تمكيننا من الاستقصاء والتتبع وما معنى أن تحجر مدينة بأربعة ملايين نسمة وتستقبل الآلاف من مدن وأقطار موبوءة.
لم أعد أفهم ما تعنيه الألوان ولا الإجراءات المرتبطة بها وإذا ما كان الأردن يعمل باستراتيجية التباعد والعزل أم أنه بدل فهمه وتصنيفه للوباء وطرق التعامل معه. في الكثير مما نسمع هذه الأيام، تختلط علينا الألوان كما كانت تختلط على الطفل الذي اعتقد والده بأنه عبقري.
الغد