الانتخابات الداخلية للعشائر والتحدي الاقتصادي والسياسي
د. حسين البناء
02-09-2020 01:35 PM
القبيلة ركنٌ أصيلٌ في تشكيل الثقافة العربية و رسم أطر الوعي والسلطة والتمكين فيها، فانقسام الناس ما بين قيسيٍ و يمانيٍ كان معضلة الأمويين التي انفك منها العباسيون عندما طعّموا الخلافة بالأقليات و العجم كملجأٍ للتنوع الذي يضعف العصبة القبلية و تداعياتها التي تتنافى مع فكرة الدولة و الخلافة.
العشيرة كمؤسسة تمثل منظومة دعم اجتماعي لأفرادها و كشكلٍ من صور التماسك و التكافل الإنساني هي نموذج حضاري مستدام يمكن له التكيّف مع متطلبات العصر الحديث ولعله يتقاطع مع دور الدولة الحديثة في التنمية و المشاركة و مكافحة الفقر و تعزيز القيم الثقافية والاجتماعية الإيجابية.
في الجانب الآخر، و عندما تتشكل أطر المجتمع و علاقاته و مصالحه حول القبيلة كمركز للتمكين و الدخول في شبكة السلطة والنفوذ فإن نموذجًا آخرًا يتشكّل و هو لا ينسجم مع فكرة الدولة المدنية الديمقراطية العصرية البتة؛ فمن المتوقع أن يتضاءل هناك دور الفرد و الأقليات المتنوعة و فكرة ريادة مؤسسات المجتمع المدني والأحزاب و النقابات. بكلمة أخرى سنكون أمام أندلسٍ ضائع ممزق مابين قيسي و يماني في القرن الحادي و العشرين!
قانون الصوت الواحد لانتخاب مجلس النواب في الأردن، و قانون الكتلة الواحدة، و قانون الدوائر الوهمية، جميعها كانت تمثل صيغًا ساهمت في إقصاء الأحزاب عن الساحة السياسية على المدى القصير؛ حيث أن الأقربون أولى بالصوت الأوحد للناخب، و كذلك ساهمت في تمزيق إجماع صوت العشيرة و تنافس أبنائها على تمثيلها في السلطات على المدى المتوسط بسبب الزعامات المستجدة الناشئة وغير التقليدية في القبيلة.
أمام ذلك، وفي ضوء انحسار العمل السياسي المدني للأحزاب و النقابات، و عززه حل جماعة الإخوان المسلمين و حل نقابة المعلمين، فإن الساحة باتت رحبة لإعادة تموضع القبيلة في المشهد المفرغ، فاستحضرت ممارسات جديدة على نية تجاوز المحنة، و ذلك عبر صندوق الانتخاب الداخلي للعشيرة والذي يهدف لحصر المرشح الأقوى حضورًا و طرحه كمرشح ممثل للعشيرة في البرلمان و البلديات و اللامركزيات.
ههنا يتم صياغة إعلان ضمني بتجاوز الحق الدستوري و القانوني في حرية الترشح و الانتخاب، و إقصاء طبيعي و متوقع للأقليات و مرشحي الأحزاب و الهيئات والنخب الفكرية و الثقافية و الاقتصادية.
هنا يتم طرح تساؤلات و شكوك حول: هل يمثل مرشح إجماع العشيرة مصلحة جملة الناخبين؟ هل سيكون نائب خدمات عامة أم مممارس حقيقي لدور الرقابة و التشريع؟ و ما الحيز المتاح المتبقي للأحزاب و النخب الفكرية بعد ذلك؟ و هل نسب المقاطعة المرتفعة ستعزز إقصاء الشخصيات الوطنية و الحزبية؟ وهل سيمتلئ البرلمان بنخب حقيقية وازنة على مستوى الأزمة الاقتصادية و التحدي السياسي للبلد أم على مستوى وجاهات المحليات و الأحياء ومطالبها الخدماتية؟ و الأهم هو: لمصلحة من يحدث كل ذلك؟ ومن سيدفع ثمنه؟
الأردن اليوم أمام عتبة القرن الثاني للدولة في عام 2021 ، و هو أمام تحدي اقتصادي حقيقي لا يقل عن خطورة أحداث 1989 ، فالدين العام يصل لحدود 102% من دخله المحلي، و يتوقع تحقيق عجز موازنة عامة في حدود 2 بليون دولار، و جائحة كورونا تتمدد و تلقي بأثرها على الشركات و نتائجها المالية المربكة مع نهاية الحسابات الختامية لعامنا 2020.
في الجانب الآخر السياسي فإن إسرائيل تقضم يوميًا شيئًا جديدًا من ضفتنا الغربية المحتلة منذ 1967 ، و لا حديث عن عودة لاجئين أو تعويضهم، و القدس و المقدسات باتت تدار سياحيًا عبر شركات خاصة عربية إسرائيلية مشتركة، و الموقف العربي آخذٌ في مجاراة رؤية تل أبيب أكثر من أي وقت مضى.
أمام كل هذا التحدي الحيوي و التهديد الاستراتيجي فإن الأردن الذي نعرفه منذ مئة عام يحتاج إيمانًا أعمق بأن روح المادة الدستورية القائلة بأن "النظام نيابي ملكي وراثي" وغايات التقديم و التأخير فيه، هي الروح التي ستجدد مفهوم التمكين الشعبي و المشاركة و الديمقراطية الحقة، بعد ما شابها ما استُحدث من التفافات غير مأمونة في ظرف استثنائي تاريخي.
إن وضع الجماهير في ضوء الحقائق، و تحميل المسؤوليات لمراكزها، هو المدخل الحقيقي للمواجهة و الاستدامة في بيئة مضطربة و عدائية.