من سوريا شرقًا الى ليبيا غربًا عبر المتوسط: هنا أنقرة
رائد العمري
02-09-2020 11:52 AM
سُخّنت مياه شرق البحر الأبيض المتوسط لحدود اللهب في الفترة الماضية بسفن حربية تناور بالذخيرة الحيّة، وبتهديدات وتصريحات نارية غير مسبوقة وصلت حدَّ التلويح بالحرب. تحوّلت معها المنطقة المليئة بالغاز لبرميل بارود يمكن أن ينفجر في أية لحظة.
وفي غمرة انشغال واشنطن بسباق الانتخابات الرئاسية، وتفاهماتٍ مع موسكو بدأت من سوريا، ومع تأمينها "لجبهتها" الغربية في ليبيا بعد اتفاقها مع حكومة "الشرعية" في طرابلس، وكسبها لهامش مناورة على مشارف أوروبا، تندفع تركيا بقوة في شرق المتوسّط بمناورات عسكرية ضخمة وجريئة وعمليات تنقيب عن الغاز وسط تواصل التوتر مع اليونان على خلفية أزمة حقول الغاز في المنطقة.
فبرغم تهديدات الاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات عليها إذا لم تسجّل أي تقدم في حوارها مع جارتها اليونان، أطلقت تركيا السبت مناورات عسكرية جديدة تمتد لأسبوعين، حيث أشارت البحرية التركية في إشعار بحري (نافتكس) تم نشره مساء الجمعة الماضية، إلى أنها ستجري "تدريبات إطلاق نار" في الفترة من 29 أغسطس/آب إلى 11 سبتمبر/أيلول في منطقة مقابلة لبلدة أنامور في جنوب تركيا، شمال جزيرة قبرص.
أما اليونان التي تعي أنّ التحرك التركي إنما يستهدف اتفاقياتها البحرية مع كلِّ من إسرائيل ومصر وقبرص، فقد أطلقت بدورها مناورات عسكرية بحرية مشتركة الأربعاء الماضي، شاركت فيها قوات من قبرص وإيطاليا وفرنسا من الجنوب من جزيرة كريت في شرق المتوسط.
البداية من سوريا
من دون شكٍّ فقد كانت "المسألة الكردية" وتأمين الحدود وقضايا اللجوء والبحث عن دور استراتيجي بين "الكبار" من أهم دوافع أنقرة لإرسال قطاعات عسكرية إلى سوريا وأخذ موقف الداعم للمعارضة السورية "المعتدلة"، وربّما قامت بذلك نيابة عن الناتو أو الأمريكان الذين عقّد الوجود الروسي على الأرض السورية وبقوّة أي تواجد كثيف لهم في سوريا. ولكن وبرغم كلّ هذه الأسباب التي قد تبدو وجيهة واستراتيجية بالنسبة لدولة جارة لسوريا وبحجم تركيا (بالحسابات التركية طبعًا)، إلا أن "رائحة الغاز" تفوح بقوة من الجنود وأرتال الدبابات التركية وتصريحات السياسيين في أنقرة وتفاهماتهم مع الروس.
ففي سوريا أرادت تركيا لنفسها موضعًا عسكريا مؤثّرًا على شرق المتوسّط بالقرب من اللاذقية وقبرص وإسرائيل ولبنان، أو ما بات يعرف بـ (مثلث الغاز الجديد).
كلّ ذلك تقوم به تركيا بتفاهمات مع روسيا، حيث طوّر الطرفان قواعد اشتباك "مثيرة" في سوريا، بالرغم من انحياز كلٍّ منهما لطرف على أقصى النقيض من الطرف الآخر في الحرب السورية.
إلى ليبيا
ربما تفاجأ الكثيرون من انخراط الأتراك بالملف الليبي -على الأقل من ناحية الزخم والحسم- وبهذه السرعة، والذي ضمن لأنقرة موقع اللاعب الكبير وربما الأكبر بين الكبار.
ومما لا شكّ فيه أيضًا أنّ ما ساعد الأتراك على الحصول على هذه الحظوة و"المرتقى الصعب" في ليبيا هو علاقتها المتينة مع جماعات الإسلام السياسي المكون الأكبر لحكومة السراج في طرابلس.
ففي ٢٥ نوفمبر الماضي وقّع الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان مع رئيس حكومة الوفاق الليبية المعترف بها دوليًا اتفاقيات تعاون في المجالات الأمنية والعسكرية، ومذكّرة تفاهم حول المنطقة البحرية الخالصة.
بيد أن الاتفاق البحري مع ليبيا هو ما يهم تركيا بالدرجة الأولى، والذي ضمن لها هامش مناورة كبير في المتوسط غربًا هذه المرة من جهة مصر واتفاق الحدود البحرية الأخيرة مع اليونان، وذلك بعد أن ضمنت لنفسها هامش مناورة مهمٍّ في أقصى شرق المتوسط من جهة سوريا.
ويرى الكثيرون أن الاتفاق التركي الليبي جاء بعد اقتراب قوات الجيش الوطني بقيادة خليفة حفتر من مركز العاصمة طرابلس، حصلت بموجبه أنقرة على تفاهمات بحرية مقابل تقديم الدعم للسراج.
فلم يُخفِ الرئيس أردوغان سعادته بالاتفاق البحري مع طرابلس، حيث قال وبوضوح في كلمة بمناسبة العام الجديد ٢٠٢٠: "ها نحن بصدد اتخاذ خطوات جديدة ومختلفة في كل من ليبيا وشرق البحر المتوسط، ونأمل في أن يحقّق جنودنا في شرق المتوسط ملاحم بطولية كتلك التي حققها (أمير البحارة العثمانيين) خير الدين بربروس، وهم بالفعل سيواصلون كتابة تلك الملاحم".
وبدون شك فإن احتياجات تركيا للطاقة وجموحَها لضمان حصّة الأسد في حقول غاز شرق المتوسط الغزيرة هو من أهم الاسباب التي دفعت بها للتدخّل وبقوّة في ليبيا، ذلك البلد الذي يعوم على بحيرة من النفط والمطلُّ على ثروات غازية واعدة، خصوصًا وأنها -أي تركيا- تستورد نحو 95 في المئة من حاجاتها من الغاز و94 في المئة من حاجاتها من النفط.
في شرق المتوسط سواء من جهة سوريا إلى ليبيا يتيح الوجود العسكري لتركيا اشتباكًا مع مشروعي الغاز: اليوناني-القبرصي-الإسرائيلي، واليوناني-المصري.
“Mavi vatan”
لقد كان مصطلح “Mavi vatan”، بالإنجليزية “Blue Homeland Doctrine” ، وبالعربية "الوطن الازرق" مجرّد مفهوم تاريخي خالص في الأدبيات التركية الاستراتيجية، إلا أنه تحول إلى فعل سياسي حقيقي على الارض في الآونة الأخيرة وخارطة طريق رسمت من خلاله أنقرة حدودَ وأهداف عملها في منطقة شرقيِّ المتوسط.
وفي محاضرة ألقاها في جامعة الدفاع الوطني في إسطنبول في سبتمبر ٢٠١٩ تحدّث الرئيس أردوغان ومن خلفه خريطة كتب عليها اسم "الوطن الازرق"، والتي تحدّد السواحل التي تعتبرها تركيا مُلْكًا لها في البحر المتوسط وبحر إيجة، وأظهرت الخريطة "وطن تركيا الأزرق" ممتدًا حتى الخطّ الوسيط لبحر إيجة، محاطًا بمجموعة من الجزر اليونانية، كما أظهرت سيطرة تركيا على مساحة كبيرة من سواحل شرق المتوسط تمتدُّ إلى الشاطئ الشرقيّ لجزيرة كريت اليونانية.
وإذ تنسب فكرة أو مشروع "الوطن التركي الازرق" إلى الأدميرال التركي رمضان جيم غوردينز الذي قدم رؤية لفرض سيادة تركيا على مساحات كبيرة في البحر المتوسط وبحر إيجة والبحر الاسود، فقد نشر مركز "أوراسيا" للدراسات الاستراتيجية كتابًا بعنوان "ليبيا جارتنا في البحر" من تأليف رئيس أركان القوات البحرية التركية جهاد يايجي الذي تحدّث فيه عن الاتفاق البحري التركي الليبي وكيف أن هذا الاتفاق "سيفسد السيناريو الذي وضعته اليونان وقبرص اليونانية لتقاسم منطقة شرق المتوسط".
إذن فقد اختارت تركيا لنفسها الدخول وبقوة إلى مياه شرق المتوسط المزدحمة بالخلافات والتوترات ورائحة الغاز، ولعلّها تريد هذه المرة أن تجبر جميع الأطراف المعنيين على التفاوض معها وبشروطها، وبطريقة تختلف عن خلافها السابق مع إسرائيل، فهي الآن في ليبيا.