حَارَ المُعَلّم ماذا يَصْنع! وهو لَم يَخْبر مِهْنة التدريس بعدُ، وما اطّلَعَ على أساليبها وحَيْثِيّاتِها، كأنّه وُلد في الحياة تارةً أُخْرى، يومَ ساقَهُ القَدَرُ أنْ يَكون معلّمًا، فهو لَمْ يَفْهم من الحياة سِوَى عَطْف والديه وحَنانِهِما، وانْطِلاقَةِ الشّبابِ ومُيُوعَةِ الصِّبَا.
ها هو المدير يَجْلس إليه غَداة كُلّ يومٍ يُحَاوِرُه ويُناكِفُه، غيرَ قاصدٍ إلى عِلْمٍ أو تَعْليم، وإنّما هي شِنْشِنَةُ مُديرٍ خَلِقٍ جاهلٍ بالإدارة الحديثة، يَهْدف من ورائها إلى إِرْعاب المُعَلّمين –الجُدُد- وإِرْهابِهِم، لِيَسْهل عليه قِيَادُهُم وتَطْويعُهُم.
ويَدخل إليه كلَّ يومٍ من غير مقدّماتٍ على مَرأى المعلّمين ومَسامعهم، ويفاجئه بسؤالٍ: ماذا تَعرف عن كونفوشيوس؟ إنْ كنتَ داريًا فهاتِ لي واحدًا من مؤلّفاته. خَبّرني عن سينيّة البحتري: مناسبتها، وبَحْرها، ومطلعها. ما الفرقُ بين البَرّ والبُرّ والبِرّ؟ وماذا يُطلق على هذا النّوع من الكلمات؟ تَحَدّث لي عن رسالة التّربيع والتّدوير: مَن مؤلّفها، وما الغاية منها؟ وماذا تعرف عن لاميّة الراعي النّميري؟!!
وهكذا تَتَقاطر الأسئلةُ على المسكين، يُحَضّرها المديرُ قبل اللّقاء بيوم كيما يُشعرَ قبيلَه بعلمٍ ودرايةٍ، والمعلّم لا يُحَرّك ساكنًا أو يُسْكِن متحرّكًا، حائرًا مرّة وضاحكًا أخرى، لِيُفاجَأَ في نهاية اللّعبة أنّه مُعلّم جاهلٌ، أَضاعَ مِن عُمُره سنوات بلا فائدة أو علم يُنتفع به...
وذاتَ مرّة والمعلّمون جالسون تأْخُذُهم أطرافُ الأحاديث، جاءَه المديرُ ساخرًا: إنْ كنتَ حصيفًا يا مَن تَدّعي العربيّة وتَزْعم حِذْقَها -وهو ما ادّعى يومًا ولا زَعَم- ما بِضاعتُك عن الصّاحب بن عبّاد؟! فأجاب المعلّم أنْ ليست لي به معرفة، وأَطْرقَ مُنْزعجًا، ثمّ ما لبث أنْ سألَ المديرَ: إذا كانت المسألة عندك طَرْحَ أسئلةٍ والإجابةَ عنها، أو أَعْلامًا ومعرفةَ أخبارهم، أو شواردَ غائبةً واستذكارَها، فإنّني أطرح عليك سؤالًا أسهلَ مِمَّا أمطرتني به من أسئلة: ما دِلاؤك في (الرّاغِبِ بْنِ عَلاّمَة)؟!
سَكَتَ المديرُ ولم يَنْبِسْ بِبِنْت شَفَةٍ، ثمّ لَمْ يَتَمالك نفسه فَأَجَابَ: هُو من القُدماء وله بعض التّصانيف والمؤلّفات. فَتابَعَه المعلّمُ: لو تَذْكر للمعلّمين بعضًا منها. عندها تَلَكَّأَ المديرُ واضْطَرَبَ، واحْمَرّ وجهُه واصفرّ، وكاد في المَجْلس يَجْترّ..!!
هنا نطق المعلّم بليغًا: لقد عرفتُ اليوم سِرَّ عِلْمِك وجَهْلك! لا (تِلْعبْ) بالنّار! وهي أُغْنيةٌ مَشْهورةٌ للمطرب اللبنانيّ رَاغِب عَلاَمَة، الذي جعلتَ منه عالمًا مُصَنّفًا.