لم يقتصر دور البورجوازية اليهودية - كما ذكرنا في مقال سابق - على إنشاء المؤسسات والجمعيات وتمويل بعض المستوطنات الزراعية في فلسطين وإنما لجأت أيضا الى سلاح فعال وهو تبني واستخدام كوادر فكرية يهودية لا سيما من بين رجال الدين اليهود ليعملوا في خدمتها ويعبروا عن مصالحها من خلال استثمار قوة الكلمة بأبعادها الدينية والقومية بين أوساط يهودية فقيرة وبائسة لا تعي سوى دلالات الكلمة الظاهرية وكانت الغالبية منها تقطن روسيا وأوروبا الشرقيةروكانت هذه الأوسط اول ضحية من ضحايا الأوهام والمزاعم الصهيونية الاستعمارية.
يعتبر كل من الحاخامين يوحنا القلعي وتسفي كاليشر رائدي الصهيونية الدينية التي نجحت في طرح وتغليف المفاهيم الصهيونية السياسية الاستيطانية بمفاهيم دينية بغية استقطاب تأييد ودعم الجماعات اليهودية وخاصة تلك الشرائح الفقيرة المتدينة والمتمركزة في روسيا وأوروبا الشرقية وذلك لاستيعاب مثل هذه المفاهيم والاقتناع بها، ولذلك فلا عجب إذا وجدنا هذه الشريحة تشكل المادة البشرية الفعالة لعملية الاستيطان اليهودي في فلسطين، إذ استوعبت فكرة * العودة * الى فلسطين على انها جزء من الفرائض الدينية، لا سيما ان تعاليم القلعي وكاليشر كانت تنص على ان عودة المسيح المنتظر لا تتحقق الا بهجرة أعداد كافية من اليهود الى فلسطين للعمل في ارضها وبناء المستوطنات الزراعية فيها.
وكان ان تركت هذه المفاهيم اثارها الواضحة على جماعة أحباء صهيون التي لعبت دورا بارزا في ازدياد حجم الهجرات اليهودية الى فلسطين في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.
وكان لآراء القلعي وكاليشر ونشاطاتهما العملية اكبر الأثر في نفوس الجماعات اليهودية في روسيا وأوروبا الشرقية من اجل تهيئة السبل لإرساء دعائم النهج الاستيطاني الصهيوني في فلسطين والذي يكون بمقدوره توفير الخدمات لكل من الإمبريالية الغربية والبورجوازية اليهودية.
وكان القلعي من أوائل المفكرين اليهود الذين عملوا ضمن إطار مصالح هاتين القوتين، فهو قد نشأ في منطقة البلقان الا ان منطلقات فكره واهتماماته كانت مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالواقع اليهودي في أوروبا الغربية، وقد استغل الأوضاع المعيشية الصعبة ليهود روسيا وأوروبا الشرقية ليتخذ منها وسيلة لخدمة الإمبريالية والبورجوازية اليهودية في أوروبا الغربية كما سيتضح لدى مناقشة الأفكار والآراء التي طرحها ، وينطبق هذا أيضا على كاليشر الذي نشأ في الجزء الروسي من بولندا.
مارس القلعي (١٧٩٨-١٨٧٨) اول نشاط سياسي له خلال احداث البلقان حين اصدر نداء للجماعات اليهودية يطالبها بالوقوف الى جانب الشعوب البلقانية في ثورتها ضد الحكم العثماني . وكان من اهم هذه الثورات ثورة اليونان عام ١٨٢١ التي كانت تطالب باستقلالها عن الدولة العثمانية ، وقد اثارت هذه الثورة اضطرابات متلاحقة في منطقة البلقان مما اضطر السلطان العثماني الى الاستنجاد بمحمد علي والي مصر آنذاك ( انظر : (William Yale , The Near East , p p . 127-131 وقد استغل القلعي هذه اليقظة القومية في البلقان ليتخذ منها في كتابه * اسمعي يا اسرائيل * عام ١٨٣٤ نموذجًا ليهود العالم كي يقتدوا به ويعملوا * بمنتهى التصميم والجدية * من اجل تحقيق * العودة * الى * ارض الآباء * في فلسطين ودعا الى البدء فورا ببناء المستوطنات اليهودية تمهيدا لإقامة دولة * بني اسرائيل * فيها دون أي انتظار لمجيء المسيح المخلص المنتظر.
وهكذا كان القلعي اول مفكر يهودي في القرن التاسع عشر ينادي بإنشاء دولة يهودية في فلسطين . ونظرًا لان هذه الفكرة كانت تتعارض مع المفهوم الديني السائد ، فقد استغل القلعي مكانته الدينية وأخذ يستعين بواحدة من الأساطير الصوفية التي كانت تنص على ان المسيح الإنسان سيسبق المسيح المنتظر ويقود اليهود في حروب * يأجوج ومأجوج * لفتح فلسطين عنوة وذلك في محاولة منه للتغطية على هذا التعارض . وقد دعا القلعي الى هجرات يهودية جماعية الى فلسطين ، مشيرا الى ان المسيح الإنسان سيظهر من بين هؤلاء المهاجرين الرواد . وكان القلعي يطمع من وراء استخدام هذه الأساطير الى كسب تاييد الجماعات اليهودية المتدينة المحافظة لدعوته الاستيطانية ، وفي الوقت نفسه كان يهمه بالطبع ارضاء الجماعات العلمانية بغية المحافظة على تالف ووحدة العمل اليهودي * من اجل صهيون * .
وفي. عام ١٨٣٩ أعلن القلعي بناء على حسابات اجراها بموجب علم القبالة ( او الكابالا بالعبرية ، وهي معتقدات عبرانية روحانية تتضمن تفسيرات للمفاهيم الباطنية المتعلقة بالحياة والكون ) انه قد توصل الى نتيجة مفادها ان عام ١٨٤٠ سيكون عام * الخلاص اليهودي * والعودة الى * ارض الميعاد * ، ولذا فانه أخذ يحث يهود روسيا وأوروبا الشرقية ولا سيما الشرائح الفقيرة منهم على الإسراع في الهجرة الى فلسطين تحت لواء * المسيح الإنسان * استعدادا لمجيء المسيح المنتظر. ولعله ليس من قبيل الصدفة ان تجيء هذه النبوءة في الوقت الذي بدأ فيه محمد علي يتراجع عن فتوحاته ببلاد الشام أمام ضغوط بريطانيا وحلفائها ، وفي الوقت الذي بدأ فيه الاستعداد لعقد مؤتمر لندن عام ١٨٤٠ ، حيث كان من ضمن البنود المقترحة على جدول أعمال المؤتمر بند يتعلق بامكانية إنشاء دولة يهودية في فلسطين لحماية المصالح الإمبريالية في الشرق العربي والحيلولة دون قيام أي محاولة وحدوية عربية تنبع من مصر وتهدد تلك المصالح.
ومما يسترعي الانتباه أيضا ان تجيء هذه النبوءة في أعقاب زيارة قام بها القلعي لعدد من دول أوروبا الغربية وفي مقدمتها بريطانيا ، حيث حظي بمقابلة عدد من المسؤولين فيها اضافة الى عدد من رجال المال اليهود، ولعل في هذا ما يبرر اتهام القلعي بانه كان يوظف المعتقدات الدينية لدى الجماعات اليهودية المحافظة بغية تشجيعها على الهجرة الى فلسطين لخدمة المصالح الإمبريالية الغربية والبرجوازية اليهودية .
ولدى انقضاض مؤتمر لندن دون تبنيه مشروع الدولة اليهودية نظرًا لفشل المؤتمرين في إقناع الباب العالي بالموافقة عليه ، وبالتالي لم تتحقق نبوءة القلعي بحلول * الخلاص اليهودي * ، وعندها لجأ هذا الحاخام اليهودي الى تبني فكرة جديدة اسماها فكرة * الخلاص الذاتي التدريجي * ، وكان المقصود بهذه الفكرة العمل على بناء كيان يهودي في فلسطين بشكل منتظم وتدريجي لا بشكل عفوي ومفاجىء.
وقد ألقى بمسؤولية إنشاء وتمويل المستوطنات اليهودية على عاتق اقطاب المال اليهود ، في حين تقوم الجماعات اليهودية في روسيا وأوروبا الشرقية بتقديم العنصر البشري اللازم لعملية الاستيطان ، وقد اوضح ذلك بقوله : * يتوجب علينا بناء البيوت وحفر الآبار والاهتمام بالزراعة، وأنه لامر في غاية الأهمية ان يظل أغنياء اليهود يعيشون في ارض الشتات وذلك لإمداد اخوانهم المستوطنين بما يحتاجونه من عون ومساعدة . اننا لا نستطيع الهجرة على نطاق واسع وذلك كي لا نصبح في النهاية مثل البدو مبعثرين في الخيام في مختلف ارجاء الديار المقدسة ... الخلاص يجب ان يتم بناؤها وإعدادها وتحضيرها بالتدريج * .
وقد لجأ القلعي هنا الى المنطق الاستعماري التقليدي ، حيث أشار الى ان هؤلاء المستوطنين اليهود سيستقرون في الأرض الخربة ويحولونها الى ارض مزدهرة ينشرون المفاهيم الحضارية بين سكانها * المتخلفين * . وقد استغل هذا المنطق نفسه دعاة الاستيطان اليهودي من الصهاينة اليهود أمثال شافتسبري وغيره من الصهاينة الأغيار (Arthur Hertzberg , The Zionist Idea , p . 105 )، وأشار القلعي أيضا الى أهمية محافظة البورجوازية اليهودية على مواقعها في الدول الكبرى لما يمكن ان تقوم به من دور في توفير الحماية للمستوطنين اليهود مستغلة بذلك نفوذها في تلك الدول ومقدرتها على حثها للتدخل لدرء أية اخطار قد يتعرض لها هؤلاء المستوطنون في فلسطين .
ولتنظيم عملية استثمار الأرض الفلسطينية ، دعا القلعي البرجوازية اليهودية الى تاسيس شركة مساهمة استيطانية تقوم ببذل محاولات* لشراء * فلسطين من السلطان العثماني او على الأقل الحصول على حق استغلالها لمدة معينة مقابل اجر سنوي . ومما يسترعي الانتباه ان هذا الاقتراح جاء مباشرة في أعقاب محاولة بالمرستون وزير خارجية فلسطين آنذاك الحصول من الدولة العثمانية على حق حماية اليهود المقيمين في فلسطين . ولعل هذا التجاوب في المواقف بين القلعي وبالمرستون ليس من قبيل الصدفة المحضة لا سيما وانها تكررت اكثر من مرة .
وفي هذا السياق يلقانا الحاخام كاليشر (١٧٩٥-١٨٧٤) وهو من اكبر المفكرين اليهود الذين تركت ارائهم اثارا عميقة واضحة في الفكر الصهيوني بالرغم من ان اهتماماته الصهيونية جاءت متاخرة نسبيا عن سابقه القلعي .
نشا كاليشر في اقليم بولندي كان خاضعا للسيطرة البروسية منذ عام ١٧٩٣ ، وكان هذا الإقليم مسرحا للأفكار القومية والثورات التحررية التي كان يقوم بها الشعب البولندي بغية إنقاذ بلاده من السيطرة الأجنبية وإعادة بناء دولته الموحدة . ففي زمنه حدثت ثورتان عنيفتان في القسم البولندي المحتل من بروسيا ، الأولى عام ١٨٣٠ والثانية عام ١٨٦٣ ، وقد كان لهذه الثورات والحركات القومية اكبر الأثر على آراء كاليشر وافكاره الصهيونية
باشر كاليشر نشاطه السياسي مع ظهور حركة الاستنارة الإصلاحية اليهودية التي قادها موسى مندلسون . وقد دعت الحركة منذ تأسيسها الى اجراء تعديلات واسعة في العقيدة اليهودية ومن أهمها التخلي عن جميع الطقوس المرتبطة بإقامة الدولة والبحث عن الهيكل والتي لم يبق أي مبرر لاستمرارها . وطالب الاصلاحيون أيضا بإعادة تفسير اليهودية على أساس عقلاني ومنهجية علمية يتم من خلالها التركيز على الجانب الأخلاقي للتلمود ، واهمال الكثير من المحرمات التي نصت عليها الديانة اليهودية . كما نادى الاصلاحيون بالتخلي عن فكرة * الشعب المختار * مؤكدين ان معاناة اليهود من قسوة المنفى في ارض الشتات يجب ان تمدهم بالحافز للتشبث بالقيم الأخلاقية ونشرها بين الأمم والشعوب بغية التقرب منهم والاختلاط بهم . كما عارض الاصلاحيون فكرة * العودة * الى فلسطين وتأسيس دولة فيها.
غير ان هذه التعديلات التي نادى بها الاصلاحيون أدت الى قيام حالة عداء بينهم وبين الصهاينة . غير ان هذه الحالة العدائية لم تستمر طويلًا ، فبعد قيام الدولة اليهودية بدا الاصلاحيون يتقربون من الصهاينة وأخذوا يعملون بالتدريج على تغيير مبادئهم المعادية للصهيونية . وما لبثوا عام ١٩٦٨ ان اعترفوا بالدولة اليهودية وبحدودها الجديدة الي امتدت اليها في أعقاب حرب عام ١٩٦٧ (Philip philipson , The Reform Movsmsnt in Judaism ) .
رفض كاليشر بشدة دعوة الاصلاحيين الرامية الى التخلي عن التقاليد اليهودية المتوارثة وعن حق اليهود في * العودة * الى فلسطين . وفي الوقت الذي كان فيه الاصلاحيون يفسرون مفهوم * العودة * على انه عودة اليهودي الى تبني القيم الأخلاقية والاندماج في المجتمع الذي يعيش فيه ، نجد كاليشر يشدد على ضرورة ارتباط اليهودي بارض الميعاد ويدعو الى * استرجاعها * ولو بالقوة إذا اقتضى الامر ذلك .
ان خلاص اليهود في رأي كاليشر لا يمكن ان يتم الا بعودة اليهود أولًا الى فلسطين . وهذه العودة لا بد ان تسبق مجيء المسيح المنتظر، وكلما تأخرت العودة تاخر مجيئه وبالتالي تأخر الخلاص اليهودي . وقد انتقد كاليشر المفهوم الديني الذي كان سائدا بين غالبية العوام اليهود والذي يشير الى ان المسيح المنقذ سيظهر لتخليص اليهود من * محنتهم * طالما هم حافظوا على صلواتهم وإقامة الطقوس الدينية المفروضة عليهم . ان مجيء المسيح وخلاص اليهود - كما اوضح كاليشر - رهن بتجميع اليهود أنفسهم في * ارض الميعاد * والعمل بمنتهى الجدية والإخلاص في * تطهير ارضها من مختلف الشرور والشوائب التي علقت بها عبر القرون الماضية * . ومما قاله أيضا في هذا الصدد : * ... ان خلاص اليهود لن يبدا الا بمساندة المحسنين وبكسب موافقة الأمم على لم شمل فقراء اليهود في الأرض المقدسة( Hertzberg , p . 111 ) . ويلاحظ هنا حرص كاليشر على تامين موافقة اكبر عدد ممكن من الأمم لدعم هجرة اليهود الى فلسطين ، وهي تعنى بعبارة أخرى تامين حماية وتأييد القوى الإمبريالية الكبرى التي تصبح موافقتها أمرًا أساسيًا في هذا المجال . كما يلاحظ أيضا تكرار تعبير * لم شمل بعض اليهود * وهذا يشير الى ادراك كاليشر لضرورة استثناء مجموعات يهودية من الهجرة الى فلسطين لتظل مصدر تموين ودعم للكيان اليهودي ، والمقصود بهذه المجموعات بالطبع الفئات البرجوازية اليهودية التي كان بمقدورها توفير التمويل والدعم اللازمين .
وكعادة غالبية رواد الفكر الصهيوني في التواصل والتنسيق مع البرجوازية اليهودية او القوى الإمبريالية ، نجد كاليشر يتبع الأسلوب نفسه فيوجه في عام ١٨٣٦ رسالة الى ميير روتشيلد Meyer Rothschild رئيس فرع أسرته في برلين وعميد الأثرياء اليهود في العالم آنذاك ، مقترحًا عليه ان تقوم أسرته بشراء فلسطين من محمد علي حاكمها في ذلك الوقت ، وذلك لإقامة مستوطنات للمهاجرين اليهود الذين سيفدون اليها من أوروبا الشرقية . ولكن كاليشر لم يحظ باي رد على رسالته بسبب عدم وجود مصالح استعمارية لبروسيا الألمانية في المنطقة آنذاك ، فهي كانت لا تزال تعاني من مرارة التجزىة السياسية التي لم تنته الا بعد قيام الاتحاد الألماني عام ١٨٧١ على يد بسمارك . وهذا ان دل على شيء فانما يدل على ان البرجوازية اليهودية لا تقدم على أية مغامرة سياسية او اقتصادية ما لم تكن واثقة من دعم الدولة التي تعيش في كنفها لمثل هذه المغامرة .
وفي عام ١٨٦٢ نشر كاليشر كتابه * البحث عن صهيون * وهو اول كتاب باللغة العبرية في العهد الحديث حيث افرد الجزء الأكبر منه للحديث عن قدسية العمل اليدوي واهمية الاستيطان الزراعي في فلسطين . وكان لهذه الأفكار اكبر الأثر على جماعة أحباء صهيون فيما بعد .وقد وصف كاليشر في كتابه هذا حالة اليهود في أوروبا الشرقية وصفًا مأساويًا ، غير انه اعتبر ذلك امتحانًا للإيمان وبداية لحدوث الخلاص الطبيعي عن طريق التطوع للذهاب الى فلسطين بقصد الاستيطان والإقامة الدائمة فيها . غير انه ما لبث ان تعرض لمعارضة قوية في أوساط المتدينين المحافظين الذين كانوا يرون ان العمل على إقامة دولة يهودية قبل مجيء المسيح المنتظر يعتبر كفرًا . فإقامة مثل هذه الدولة وتجميع اليهود فيها يمثلان نوعًا من * الضغط * على المسيح المخلص و*اجباره * على الظهور قبل الأوان الذي حدد له وبالتالي * الإسراع في نهاية العالم * ( Hertzberg , p . 112 ) . غير ان كاليشر شن حملة شعواء على معارضيه مصرًا على ان العمل في الفلاحة والزراعة هما السبيل الدنيوي والحافز الأول للوصول الى الخلاص المرتقب والأخير . ولعل في تركيز كاليشر على العمل الزراعي اليدوي محاولة منه للتخلص من الوصمة التي ألحقت باليهود في أوروبا بانهم ليسوا * أمة * نظرًا لانهم دأبوا على الابتعاد عن العمل اليدوي وبالتالي فانهم لا يدركون أهمية الأرض وقيمة الارتباط بها .
وهكذا يتضح ان نشاط كاليشر لم يكن محصورا في نطاق الآراء والنظريات وإنما تعدى ذلك ليشمل نشاطًا عمليًا في مجال الاستيطان ، فقد ساهم عام ١٨٦٠ في تاسيس جمعية استيطان يهودية في فرانكفورت وأخرى في برلين عام ١٨٦٤ باسم * جمعية استعمار ارض اسرائيل * . كما ساهم كاليشر في إقناع مجموعة من أثرياء اليهود لشراء قطعة الأرض التي أقيمت عليها * مدرسة مكفيه يسراىيل الزراعية * . وقد اقترح كاليشر إنشاء جماعات حراسة تجمع بين العمل الزراعي والعسكري لحماية المستوطنات الزراعية من أي خطر يتهددها ، خاصة من جانب السكان المحليين العرب الذين وصفهم * باللصوص * ودعا الى استعمال السلاح دفاعًا عن المستوطنات حتى لو اقتضى الامر إرسال فرق يهودية مسلحة لملاحقة * المخربين العرب * في العمق العربي خارج حدود فلسطين . ومما يسترعي الانتباه ان الدولة اليهودية الحالية لا تزال تستعمل هذا المنطق نفسه في تبرير توسعها الاستيطاني وذلك بشن ما يسمى * الحرب الوقائية * في العمق العربي بحجة القضاء على * المخربين العرب * وهم في حقيقة الامر سكان البلد الأصليين الذين شردوا من أراضيهم .
وهكذا فان المتتبع لما طرحه كاليشر من آراء وافكار لا يسعه الا ان يستخلص انها تتضمن جميع مظاهر ايديولوجية النشاط الصهيوني من تحالف مع القوى الإمبريالية واعتماد على دعم البرجوازية اليهودية لتوفير الحماية اللازمة للوجود الصهيوني العنصري في فلسطين ، بالإضافة الى تفريغها قدر الإمكان من سكانها الأصليين بحجة * الدفاع عن النفس * واتاحة المجال * للشعب اليهودي المختار * صاحب * الرسالة الحضارية * ان يستقر في هذه المنطقة * الموحشة المتخلفة * . لقد صور كاليشر هذه المنطقة كما صورها سلفه القلعي من قبل : * أرضًا قاحلة مقفرة وان العناية الإلهية اختار ت شعبها المختار ليقوموا بنقل الحضارة اليها * ( Hertzberg , p. 114 ) . انه المنطق نفسه ! سبق واستعملته القوى الإمبريالية في تبرير احتلالها واستعمارها لأوطان الغير من شعوب الأرض . الاحتلال والاستعمار نفسه ومنطق التبرير نفسه سواء كان ذلك في روديسيا او جنوب أفريقيا او حتى فلسطين ...!