المنظومة الاخلاقية والقيمية والعلمية للاستاذ الجامعي من رؤية معاصرة
أ.د عدنان الجادري
29-08-2020 11:20 AM
كل الرسالات والشرائع السماوية لاسيما الدين الاسلامي الحنيف تؤكد على الأخلاق باعتبارها قيمة اجتماعية تميز الانسان عن باقي المخلوقات على الكرة الأرضية . وباعتبارها ركيزة اساسية لبناء المجتمع الأنساني , ويتجلى ذلك بوضوح بالنصوص التي وردت في القرآن الكريم , إذ يناشد الله سبحانه وتعالى رسوله الكريم محمد ( ص ) بقوله " وأنك لعلى خلق عظيم " وكذلك " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ". وباتت الأخلاق تشكل معياراً رئيساً للحكم على تقدم الأمم وتطورها وكما قال المرحوم احمد شوقي :
وأنما الأمم الأخلاق ما بقيت فأن ذهبت اخلاقهم ذهبوا
والأخلاق في اطارها العام تعبر عن مجموعة الخصائص والصفات المستقرة في النفس الأنسانية التي بموجبها يحسن الأنسان الفعل أو يقبح . ولهذا فأن النهج الناجح في إصلاح الناس وتقويم سلوكياتهم هو أن يبدأ المصلحون بإصلاح أنفسهم وتزكيتها وغرس معاني الأخلاق الجيدة في الآخرين .
وليس هناك من شك إن الأخلاق تسمو بالعلم والعلم يرتقي بها, وان الخلق والعلم صنوان لا يمكن الفصل بينهما , وكل منهما يكمل الآخر للتعبير عن الشخصية الأنسانية الحقيقية والمثالية في عصرنا الحاضر . وأنهما يشكلان ركيزتان اساسيتان لبناء وتقدم المجتمعات الانسانية , إذ لا يمكن للمجتمعات المعاصرة من ارساء قواعد قدرتها الأقتصادية والتنموية والحضارية بعيداً عن العلم وتطبيقاته الحيوية في مجمل انشطة وفعاليات المجتمع , وليس هناك من اختلاف بان العلم من الأسس التي تسهم في بناء حضارة الأنسان وتقدمه , ومساعدته في العيش في ظل ظروف حياتية سهلة بفضل التطور التقني والتكنولوجي في شتى مجالات الحياة , وهذه بمجملها تدفع باتجاه تنمية الأخلاق السليمة في تعاملات الأنسان الخاصة والعامة . فكلاهما اي العلم والأخلاق من الضرورات للتطور والتقدم , لإن العلم يسهم في بناء الشخصية السوية المبنية على اسس اخلاقية سامية , و الأخلاق توجه العلم والعلماء نحو العمل العلمي الخلاق والنافع للانسانية من جهة اخرى.
ولهذا اصبحت هناك ضرورة لإيلاء اهتمام كبير ومتزايد لقطاع التربية والتعليم لأن يلعب دوراً حاسماَ في بناء شخصية الفرد اخلاقياً وعلمياً لمواجهة التحديات وصياغة المستقبل للشعوب، لإن المستقبل بكل أبعاده وتحدياته يعتمد على بناء المواطن الصالح ، من خلال إعداده وتأهيله بكفاءة وفاعلية تمكنه من التفاعل الواعي مع التقدم العلمي والتقني الذي يشهده عالمنا المعاصر والتغيرات المتسارعة في جوانب الحياة المختلفة والتي تؤثر بشكل مباشر على حياة مجتمعاتنا. واصبحت المؤسسات التعليمية وبالأخص الجامعات التي تحتل قمة الهرم التعليمي في مجتمعاتنا ضرورة اجتماعية وحضارية تمليها متطلبات العصر باعتبارها الكيان الذي يحتضن البيئة الثقافية بأبعادها الفكرية والأخلاقية والعلمية وتمثل عقل المجتمع وضميره الأنساني في مواجهة التحديات والتغيرات على الصعيد الحضاري والفكري وعين المجتمع في رؤيته وتطلعاته نحو المستقبل استلهاماً من تراثه وشخصيته الحضارية .
وقد ظهرت في السنوات الأخيرة نداءاتٌ وصيحاتٌ من قبل السياسيين وصانعي القرارات والمتخصصين لإصلاح التعليم الجامعي وتطوير إمكاناته البشرية والفنية والمادية، وأن يشمل هذا الإصلاح كل ما يتعلق والعملية التعليمية التعلمية , وقبل ذلك الأستاذ الجامعي بكافة مستوياته ومؤهلاته بوصفه العنصر الأساسي والفاعل والحلقة الأقوى في التعليم الجامعي ، فهو قائدُ العملية التعلمية وصانع المعرفة ورائدُها، والتي من دونه لا يمكن ان تؤدي الجامعات أغراضَها.
وبناءً على ذلك فان موضوع الأهتمام بالأستاذ الجامعي في وقتنا الراهن لأداء دوره الطليعي في المجتمع قضية يقينية لا تقيل الشك لإنه يعد عنواناً وانموذجاً للتصدي ومواجهة التحديات العلمية والتكنولوجية والحضارية وأداة لإحداث لتغيير الاقتصادي والأجتماعي والثقافي .... وانه يمثل القيادة الفكرية الحقيقية في الوسط الاجتماعي و الأداة المحركة لإحداث التغيير الذي ينشده المجتمع وذلك في ضوء ما يقدمه من افكار وارآء ونظريات ونماذج من الأبتكارات والأكتشافات في شتى ميادين العلم والمعرفة, ويجدر بالجامعة كمؤسسة تعليمية وبحثية ان تهدف الى ارساء القيم الأخلاقية البناءة والمستمدة من القيم السماوية ومساراتها الوضعية وقد شرعت لذلك الكثير من الجامعات مواثيق اخلاقية وقيمية لضبط السلوكيات المهنية لاعضاء هيئة التدريس لتكون بمثابة مرجعية لضبط سير العمل بالجامعات. وهذه المواثيق تتضمن مجموعة القيم العليا التي تسعى الجامعة الى ترسيخها في سلوكيات الأداء المهني لأعضاء هيئة التدريس والالتزام بها أثناء ممارسة العمل. ولا تنحصر نصوص هذا الميثاق على اداء عضو هيئة التدريس لوظائفه الثلاث المتمثلة بالتدريس وتقديم المعرفة والبحث العلمي وخدمة المجنمع وإنما اساسها اخلاقي يتناول الضمير والوجدان فضلاً عن العقل .
وتجدر الاشارة بانه ليس المقصود بهذا الميثاق تقييد حرية الفكر الأكاديمي في التقييم والتوصل إلى الاحكام الأخلاقية المناسبة , بل انه إطار مرجعي يهدف الى ارساء المبادئ والقواعد التي يجب اتباعها في سلوك المهنة ، وليصبح بمثابة موجه لتفعيل القدرة على إصدار الأحكام الأخلاقية عند مواجهة المواقف المختلفة في العمل الجامعي.
وتأسيساً على ذلك بمكن ان نلخص بعض الأطر والضوابط الاخلاقية القيمية لسلوك الاستاذ الجامعي :
- أن يتسم بالأمانة العلمية في تعامله مع الطلبة والعاملين والاخلاص في العمل والصدق مع النفس قولاً وفعلاً .
- ان يلتزم بكل ما تناط به من مهام في اطارواجباته المهنية بروحية ومعنوية عالية يؤطرها الأخلاص والحماس والتفاني في العمل .
- أن يبتعد ويتجرد عن الأنا في التعامل مع المهنة وان يضع المصلحة العامة للجامعة فوق كل اعتبار شخصي .
- ان يرسخ الأخلاق والقيم الجامعية الرصينة في سلوكه وعلاقاته مع طلبته والآخرين مستندة في ذلك على الاحترام المتبادل و الود والمحبة .
- ان يحترم ويلتزم برأي الأغلبية في اتخاذ القرارات المهنية وعدم الانفراد بأرائه الشخصية وفي اطار القوانين والتعليمات والأعراف المعمول بها في الجامعة.
- ان يتقبل الرأى الآخر باحترام وبروحية ايجابية عالية .
- ان يكون قدوة ونموذجاً حسناً يقتدي به فى جميع سلوكياته وتصرفاته وتعاملاته سواء أكان بالنسبة لطلبته وللعاملين معه .
- ان يلتزم بمبدأ العدالة في سلوكه وتعاملاته المهنية كونه مربىاً ومعلماً في آن واحد .
- ان يؤمن بان العلم لا ينتمي لأي جنسية اوديانة معينة بل ان انتماءه انساني ولعموم البشرية .
- ان يكون على اطلاع ومعرفة كاملة بالقوانين واللوائح والتعليمات المقرة والمعتمدة في الجامعة ودون اي تأويل او اجتهاد شخصي .
- ان يكون له حضور في الأوساط العلمية والأكاديمية وحتى الإعلامية , وان يتابع بشكل مستمر لما يقدم في المؤتمرات والندوات والملتقيات المحلية والاقليمية والعالمية من نتاجات علمية ومعرفية .
- أن يفعل نشاطاته البحثية بانواعها الأساسية والتطبيقية والأجرائية سواء بالعمل مع طلبته او زملائه الأكاديميين بروح الفريق الواحد ليستفيد منها المجتمع .
- ان لا يضع نفسه فوق الطلبة بل يكون معهم وقريباً منهم ويوجه عقولهم وتفكيرهم وسلوكياتهم وتبصيرهم بالمستجدات العلمية والمعرفية .
-ان يبتعد عن العنصرية والقبلية والأثنية في أداء وظائفه المهنية والمجتمعية وأن يتحلى بالاعتدال والوسطية في سلوكه المهني .
- ان يوفر الفرص والبيئات المناسبة لتعلم طلبته وان يجعلهم شركاء في انتاج المعلومة والحصول عليها وايصالها.
- ان يشخص في طلبته مواطن الابداع لغرض تعزيزها وتنميتها .وان لا يجعل منهم متلقين للمعلومات فحسب وانما تفعيل دورهم ومشاركتهم بالعملية التعليمية التعلمية .
- ان يجيد اساليب البحث في تحليل ومعالجة المشكلات وايجاد الحلول الناجحه لها وتوظيف نتائج الحلول في مهامه التعليمية والبحثية .
- أ ن يكون متفتح الذهن ويحمل عقليه متفاعلة قابلة للتغيير وقبول الجديد في المعرفة والعلم وأن يكون منفتحاً مع طلابه ليشاركوه التجديد والتطوير.
- ان يهتم بالنشر العلمي لبحوثه بوصفها وظيفة من وظائفه الأكاديمية ورافداً من روافد توسيع المعرفة العلمية لخدمة حركة العلم والمجتمع .
وعليه فأن هذه االرؤى للضوابط الأخلاقية والقيمية والعلمية التي يجدر ان يتحلى بها الاستاذ الجامعي يمكن تشكيلها في اطار مواثيق تشرعها الجامعات لضبط السلوك والأداء الجامعي , ولأنها تؤدي رسالة رفيعة الشأن وعالية المنزلة في تأثيرها على حاضر الأمه ومستقبلها .