مسارات مادبا من المخيط الى دولمن الفيحاء
عبدالرحيم العرجان
29-08-2020 11:13 AM
إلى بقعةٍ محدودة جمعت عبق التاريخ والزمان، اخترنا مسارنا في محافظة مادبا، سلة القمح ومقصد الرهبان والمستشرقين، ضمن أرض مملكة مؤاب وتاريخها العريق، موطن الحضارة والاستيطان البشري وألف باء البناء والعمارة.
ابتدأ المسار بعد وجبة افطارٍ محلية من خبز الطابون وجبن ولبن الماعز البلديَ، تناولناها في حرش بلدة المخيط بالقرب من التل الأثريَ ذو الأثر البيزنطيَ وما فيه من جدارية فريدة من الفسيفساء، بقيت على حالها بكامل نقائها اللوني، تتناول حكاية المكان وما أنعم من خيرات وثمار وحيوانات عاشت في المنطقة كأنها وثيقة وصكٌّ تاريخيّ مقروء ممثلٌ برسوم، بُني عليها بيت سكنٍ في منتصف القرن الماضي، ما زال على حاله حامياً له ضمن محيط بين ثلاث كنائس أثرية؛ كنيسة القديس جورج، لوط..وكاسيو، ومن على التل الأثري أخذنا نظرتنا البنورامية للمكان، وللغرب منه يقع التوأم جبل نبو والطريق القديم إلى المغطس ونهر الأردن المقدّس، وفي الأفق جبال نابلس والقدس ومشارف أريحا ومقصد دربنا ونقطة النهاية حتى المساء.
سلكنا الدرب الهابط من شرق التلّ باتجاه المساكن القديمة التي هجرها سكانها، وحسب ما علمنا وظهر لنا أنها بُنيت في مطلع القرن الماضي من حجارة الموقع، ومنها اتجهنا لوادٍ جديد موسمي الجريان، قاصدين حوض الدولمنز في الجهة المقابلة منه، حيث ذكر المستشرق ترسترام في كتاب أرض مؤاب ضمن رحلاته الاستكشافيه لشرقي البحر الميت عام 1872 واصفاً مافيه من معالم وحياة بداوة، لتبدأ قبور الدولمنز بالظهورالمبنية بصفائح صخرية من نفس الجبل، الأمر الذي يُصعب مشاهدتها من بعيد بكتل ضخمة شديدة الصلابة بمعدل مترين طول وعرض وارتفاع، وبوزن يصل الى ثلاثة أطنان للحجر الواحد، تعتبر قبور الدولمنز أول بناء مسقوف للإنسان ضمن عمل هندسيّ جماعي، مخطط ومنظم بدقة، وتعود للعصر البرونزي المتآخر، أي قبل خمسة آلاف عام، تفقدنا الحوض وما فيه من تكوينات جرون مختلفة الأحجام حيث تبين أن الحوض يضم ما يقارب أربعين مدفن والذي حافظ على حاله بكل ما واجه من ظروف طبيعية وزلازل ليبقى صامداً بخلود عبر العصور والزمان.
يدور حول الآثار كثيرٌ من الأساطير والحكايات الشعبية وربطها بالجن والغول والكنوز الذهبية الغير موجودة اطلاقاً في ذلك الوقت إلا أنها بحد ذاتها كنزٌ حقيقي في حال تم استغلالها والترويج لها بالشكل الصحيح، ولهذا الهدف أطلقنا مبادرة حماية آثار الدولمنز منذ تسعة سنوات بهدف التعريف والتوعية وتسليط الضوء عليها، وقد حققنا ما نرضى عنه لغاية الآن، حيث وصلنا الى هذا الموقع لأول مرة بعد جهد جهيد وإرشاد من أحد السّكان من عائلة الأزايدة.
وبعد هذه الجرعة التاريخيّة الفريدة والمغيبة عن الخارطة السياحية بشكل كامل مع ان شبيهاتها في بريطانيا أٌدخلت ضمن عجائب الدنيا السبع، اتجهنا عبر السفوح الجبلية "مغاريب مادبا" من أراضي رعوية مشرفة ضمن محيط بلدة الفيحاء -الاسم الحديث من المصلوبية- والذي ينسبه بعض الأهالي إلى كنز صليب الأسطوري الذي لم يظهر لغاية اليوم، وفي رواية أخرى الى نقشٍ صخري على شكل صليب، متأملين من بعيد ما فيها من معالم كهوف ومغاور وأودية مثل وادي حمارة ومخيرس والدردور وعيون الذيب وسالم التي تنتهي وتصب في بحيرة لوط، لنختتم المسار من فوق شفا، جبل من جبال مملكة مؤاب العتيدة " أرض الغروب" المُطلة على غروب الشمس كأنها تنسّل بين جبال فلسطين تاركة أشعتها فوق البحر الميت لتعيد إليه الحياة من جديد، وينتهي المسار الاستجمامي السهل بقطع اثني عشر كيلومتر.