علاقتي دافئة بدولة الدكتور عدنان بدران , و دولة مضر شقيقه شافاه الله لم التقه من قبل , لكنني ارسلت كتابي الاخير " الرهاب الروسي غير المبرر" لطرفه . و كتابه " القرار " الصادر هذا العام 2020 , اعجبني كثيرا , وشكل دافعا لي لسبر اغواره , ولأن اسجل مكامن القوة , وفي المقابل ما كان من الممكن جعله اكثر قوة امام الرأي العام الاردني , و العربي , و الاجنبي المترجم له . وبداية ما لفت انتباهي في كتابه القيم المكون من 423 صفحة , وقدمه أ.د خالد الكركي و محمد خير الرواشدة ,و 62 صفحة منه خصصها للأوسمة الوطنية رفيعة المستوى, و الصور المتنوعة عالية الشأن مع مليكنا الحسين الراحل طيب الله ثراه , ومع جلالة الملك عبد الله الثاني اطال الله بعمره , ومع زعماء عرب , و شخصيات وطنية . و الجالب للانتباه ايضا اختيار دولته لصورته ايام الشباب لتشكل واجهة للكتاب , ولم يختر اية صورة اخرى رغم ان مادة الكتاب اردنية وطنية , و هنا اعطى مؤشرا على الاعتداد بصلابة شخصيته الوطنية , وبحقيقة كونه صاحب قرار وطني يحترم . و ثبت في الصفحة الاخيرة و عن قصد وطني طيب ما قاله له السفير الامريكي انذاك من ان بلاده راغبة بوقف المساعدات السنوية للاردن , وهو الامر الذي دفع بدولته لتصميم موازنة للدولة خالية من المساعدات الامريكية .وبأن دولته يشعر بالحماية الالهية لتراب الوطن جراء المصاعب و الصعوبات التي اجتازها الاردن قويا عزيزا .
شخصيا اثناء تدريسي للاعلام في جامعة البترا , والتي لا زلت على رأس عملي فيها , كنت دائما الفت انتباه طلبتي لاغلاقات الصحافة الاردنية المتكررة التي حدثت في عهد دولة مضر بدران ولامست صحيفتي ألرأي و الشعب ما بين اعوام 1976 و 1981 , ولاسباب كان من الممكن تجاوز عقوباتها لتتحول من الاغلاق الى الانذار , و لكي لا تصيب العقوبة الشارع الاردني المتعلم و المثقف, ولكي لا تصيب العقوبة جمهور الصحافة العامل في داخلها ايضا فتدفع به الى البطالة , رغم ان اسباب الاغلاقات مقنعة للدولة . ومثال ذلك اغلاق جريدة الرأي عام 1976 بسبب بيان لاحداث لبنان , و اغلاقها عام 1977 بسبب خبر عن قانون التقاعد العسكري, وعام 1978 بسبب خبر تعلق برواتب الجيش و الامن , وعام 1981 بسبب مقالات ناقدة للحكومة . وتعرضت جريدة الشعب عام 1978 لصاحبها المرحوم إبراهيم سكجها للاغلاق ايضا لعدم التزامها بقانون المطبوعات و النشر . وتلك الاغلاقات لم ترد في كتاب دولة بدران " القرار " , وتفسيري هو ربما لعدم اغضاب الصحافة و الصحفيين من جديد , وكان بالامكان بالطبع تبيان امر صرامة الاجراءات وقتها , والحاجة لذلك .
وفي المقابل لقد كان دولة مضر بدران عفيفا وحكيما لا يقبل ما يعرض عليه من مناصب وفي اكثر من حقبة زمنية بسهولة , وحقبة ما بعد محمد رسول الكيلاني خير مثل , وهو ما لاحظته في الكتاب . ولم يغلق الباب بوجه الاخوان المسلمين , وترك مساحة التعامل اللوجستي بين الاردن و امريكا بالذات من زاوية الند للند . واهتم بالتطور التكنولوجي بالتعاون مع الغرب , وكان همه الاول رصد اسرائيل , ونجح في ذلك وعلى مستوى الصورة و تحليل المعلومات . واسس الجمعية العلمية الملكية بهدف تحليل المعلومات العلنية , ومنها الصحافة الامريكية و الغربية . وفي الكرامة حرص دولة مضر كما سلفه محمد رسول على تثبيت اتفاقيات الحرب الدولية خدمة لعناصر جهاز امن الدولة . ووجه جل اهتمامه ليبقى العمل الفدائي الفلسطيني داخل فلسطين فقط , ولكي لا يقع ماحدث لاحقا في ايلول وبكل اسف .
لم يعتذر عن اي منصب جاء برغبة الملك الراحل الحسين طيب الله ثراه ,لكنه كان من الممكن ان يعتذر عن منصب وزير لو طلب منه ذلك وقتها دولة عبد المنعم الرفاعي كما كتب بنفسه صفحة 129 . وبعد اغتيال وصفي عام 1971 اراده الحسين الراحل ان يشكل حكومة جديدة في ظرف استثنائي , فكان جواب دولة مضر بدران و كما كتب صفحة 136 " انا لم اكن وزيرا في يوم من الايام , فكيف اصير رئيسا للحكومة ! وكيف لي ان اتي بعد وصفي التل الذي كان (طافف) على الكرسي, فأنا لا اغطي يد الكرسي الذي يجلس عليه وصفي ! " . وهنا و التعليق لي تبرز شخصية دولة مضر التي تكتنز بالقوة , و الموضوعية , و التواضع , و الاعتراف و بأعتزاز بوصفي الرمز الوطني الشعبي الاردني , وهو الذي ازداد شموخا و رفعة بعد استشهاده .
وانطلق دولة مضر عام 1973 لتأسيس حزب الاتحاد الوطني , وساهم في تشكيل حكومة زيد الرفاعي من اعضاء الحزب . وعين وزيرا للتربية و التعليم رغم عدم قناعته بالحقيبة الوزارية التي فضل عليها الداخلية بحكم اختصاصه السابق الحساس , وانصاع اخيرا لرغبة الملك . ويذكر في صفحة 141 بأنه كان يستيقظ على المراجعين ينتظرون امام بيته, .. كان هؤلاء الزوار يأتون مع الفجر .و حاول ان يعرف من مصر بحكم الصداقة من هو خليفة جمال عبد الناصر , واعتقد دولة مضر بأن عبد الناصر وكما يكتب كان يحير القيادة المصرية بين علي صبري و انور السادات ) ص 151) . و الاصح كما اعتقد شخصيا هو ان الحس الامني عند كبار ساسة مصر عالي الشأن , و الصمت خيارهم .وادهشه ان الامير رعد بن زيد وزير البلاط كان يقترض على حسابه البنكي لدفع حاجات الناس الفقراء, و بدران محق في ذلك بكل تأكيد,وهو مؤشر استقامة. وهو اي دولة مضر من وضع اسم هنري كيسنجر على القائمة السوداء لمنعه من دخول الاردن بسبب نقده المسيء للاردن ( ص 161 ) . وفي عام 1976 اعتذر عن تشكيل حكومة ما بعد زيد الرفاعي طالبا حقيبة الداخلية , وهو الامر الذي ادهش الحسين الراحل بقوله " لم ارى موقفا مثل هذا الموقف" , ثم انصاع للحسين وطلب منه ان يشكل الحكومة بنفس اليوم . ولم ينسجم دولة مضر مع تصريحات عبد الحليم خدام وزير خارجية سوريا ابان مشروع الوحدة بشأن خارطة سوريا الطبيعية التي ذكر وسطها الاردن , وطالبه بعودة الملكية الدستورية ( ص 180) .
ويسجل دولة مضر بدران هنا في كتابه موقف حافظ الاسد الصارم من السادات , و تلويحه بقطع العلاقات مع الاردن حالة دعم موقف السادات من السلام الانفرادي ( ص185 ) .
في صفحتي 188 و 189 من الكتاب هذا نقرأ بأن بدران اقتراح رحيل حكومته لانقاذ الاردن من حرج الذهاب الى كامب ديفيد , لكنه لم يفلح , و اصطدم بحكمة الحسين الرافض و حسبت لصالحه . واستمع بعدها وكما يكتب بنفسه الى ال BBC , واذا بجيمس بيكر وزير الخارجية الاميركية الاسبق يقول " لقد ارتكبو خطأ كبيرا بالتوقيع المنفرد , اي العرب , ولن يكون هناك حل سلمي في المستقبل " . وتعليقي هنا هو بأن صورة العرب اليوم الاصل ان ترتبط بمخرجات قمة بيروت لعام 2002 ,التي تقدمها نداء الامير الملك لاحقا خادم الحرمين الشريفين صاحب الجلالة عبد الله بن عبد العزيز رحمه الله . وقناعة لدى دولة مضر بدران بأن شاه ايران محمد رضا بهلوي كان بعيدا عن شعبه , وهو الامر الذي اقتنع به الحسين بعد عودته من طهران . وحدس للحسين الراحل لمنع سفر الملكة علياء الى الطفيلة نظرا لسوء الاحوال الجوية قوبل بأصرار جلالتها و حصول الكارثة عام 1977 ( ص 197) . ووصول 140 مليون دولار من الديوان الملكي السعودي امر بدران بصرف المبلغ فورا على المشاريع التي خططت لها حكومته . ومحاولة من قبل سرايا الدفاع السورية لاغتيال دولة مضر عام 1981 انتهت بأكتشافها قبل حصولها . واتفاق بين عمان و منظمة التحرير لم يوقعه عرفات , و حدس لدولة مضر يثبت صوابه بعدم قبول التوقيع مسبقا من قبل عرفات بسبب غياب هاني الحسن . واصرار من قبل دولة مضر على عدم ادانة الاتحاد السوفييتي في مجلس الامن بعد حادثة اسقاطه لطائرة ركاب كورية قادمة من امريكا عام 1983 . وحرص شديد من رجل الاعمال السعودي من اصول فلسطينية سمير شما على ان يشرف دولة مضر على بناء داراته للمسنين بمبلغ سخي قدره 750 الف دينار , وتم تنفيذ المشروع الانساني ذاك في الاردن كاملا و فعلا . وفي الختام هنا يمكنني القول بأن رحلتي مع كتاب القرار كانت ممتعة , و مفيدة , وانصح من سجل موقفا من رجل القرار صاحب الدولة مع او ضد ان يعيد حساباته . فهو وطني مخلص و قراراته القاسية صبت في مصلحة الاردن الوطن الغالي , وعمقه العروبي . و للحديث بقية .