لا أحد، في العالم الثالث، يأبه للانتخابات. إنها طريق الشهرة السهل ومبتدأ الخيلاء ومنتهاها.
لا أحد في الحقيقة، يبحث عن مرشح يُحسن التعامل مع وظائف النائب في التشريع والرقابة، حيث لم يعد ذلك الأمر مهما منذ أمد بعيد، وقتما يأوي المثقفون إلى ركن يكفيهم مؤونة الصراع المحسوم قبل ابتدائه.
بينما يُطلّ الساسة المتخصصون على المشهد الانتخابي، في دول العالم التي دفعت ثمنا غير زهيد للديمقراطية، حيث يكون انتسابهم للحزب، هو مفتاح حياتهم السياسية، وحيث يكون هذا الانتساب، عملا وطنيا رفيعا يقابل بالاحترام وبالثقة، فإن فرص الفتية في الدول التي ما زالت في بداية الطريق، تتضاءل يوما بعد يوم، حيث لا تزال الحزبية تهمة غير قابلة للعزل من ذاكرة الناس.
قلّما تجد في الدول التي ناضلت شعوبها للعمل السياسي الرزين، اهتماما بالترشح للإنتخابات من عامة الناس . لقد اقتتل أهلها عشرات السنين، ليدركوا في نهاية الشوط أهدافهم في دساتير تنتظم وفق موادها الحصيفة حياتهم السياسية، حيث لا شأن لمصطلح "العامة" بالتحقير ولا بالاستعلاء، ولا علاقة له بالأحلاف ورأس المال، بل بالمهنية والإحتراف التي وسموا بها مبادئهم.
يُترك الأمر هناك للساسة المتخصصين، أولئك الذين انتظموا في حزب له برنامج وخطة عمل وخارطة طريق، ليكونوا مرشحين ثم نوابا يزاولوا أعمال الرقابة والتشريع على الحكومات.
وقد تتبدل الأدوار، وفق مزاج الشارع السياسي، ليصبح رقيب الأمس تحت مطرقة الأسئلة الموجعة، التي لا تقبل أنصاف الإجابات ولا أنصاف الحقائق.
في الدول التي تحبو في خطواتها الأولى نحو العمل السياسي المتكامل، تبرز إشكاليات مقلقة حيال هذه العملية السياسية المهنية برمتها، حيث يختلط حابل الترشح بنابل قوانين الإنتخاب، ثم يمزج جيدا بتكريس نظام الفزعات والأحلاف المؤقتة، ويتم التحضير له وفق طرائق متعددة، تبدأ من إبراز أشخاص ليس لهم أدنى إلمام بالواجبات السياسية والرقابية والتشريعية، عبر روافع تتعدد آلاتها وتتنوع، ليقدم هذا الخليط غير المتجانس للناس بوصفه بوابة الحلول نحو التنمية السياسية والإقتصادية والإجتماعية، والحقيقة المرة الغائبة، أنها مجاميع هلامية، لا علاقة لها بشىء من ذلك كله.
ويحدث أن تنضج الوصفة وتكتمل، على هيئة هياكل فردية مفتتة، تتضمن بالضرورة تكرارا سمجا لثلّة عرفت كيف تؤكل الأكتاف المنهكة، بمواصفات سقيمة، دون برامج ودون تحالفات ذات وزن فاعل ومؤثر ودون موقف موحّد في الرقابة والمساءلة والتشريع، بينما يحجم عن الولوج للمشهد كل أولئك الذين يرون أنه ضحل بما لا يكفي لمغامرة الغوص، وعين حالهم ترى أن أمامنا فترات طويلة كي يعي الناس المعنى الحقيقي للديمقراطية قبل أن نسند هذا الوعي بتشريعات ترسخ وجود الاحزاب كي تكتمل الحالة المثلى.
المضحك المبكي في الامر كله، ان هرطقة البرامج الإنتخابية لمرشحي الروافع إياها، تضع حلولا طازجة لمشكلات تبدأ من حلول لثقب الأوزون ولا تنتهي بلقاح كورونا، ثم تسوّقها على الناس الذين لا يقرأوا ولا يصدقوا ولا يعتقدوا في أدنى الإحتمالات، بشيء من ذلك، حتى إذا استقام لهم مقام النيابة، بدأوا تعليما أميّا في الواجبات وطرائق الرقابة وحدود الحديث، فإذا انتهى التعليم وأضحوا جاهزين للمنازلات، بانت في الأفق مواسم انتخابات جديدة، ليعودوا من حيث أتوا، فارغين ولا حتى بخفّيّ حنين.