انطلقت الطائرة القاذفة العملاقة B29 من جزيرة تينيان في المحيط الهادي فجر السادس من آب عام 1945 ووجهتها مدينة هيروشيما في اليابان.
حمولة الطائرة كانت عبارة عن قنبلة ذرية أطلق عليها اسم "الولد الصغير"، كان لها قدرة تدميرية تعادل 13 كيلو طن من مادة الديناميت.
يقود الطائرة الطيار بول تينيت الذي كان أفضل طيار في سلاح الجو الأمريكي والطيار الخاص للجنرال إيزنهاور أثناء الحرب العالمية الثانية.
كان تينيت في الثلاثين من عمره عندما تم اختياره لمهمة إسقاط أول قنبلة ذرية في التاريخ. أطلق تينيت اسم "اينولا جاي" على طائرته تيمناً باسم والدته. يرافق الطائرة اينولاجاي طائرتان تحمل أحدهما أجهزة لقياس درجة الإشعاع الذري المتوقع انتشاره بعد إلقاء القنبلة أما الطائرة الأخرى فتحمل كاميرات تصوير متقدمة لتصوير الحدث الرهيب الذي كان على وشك الحدوث.
مضت ساعتان من الزمن منذ انطلاق الطائرة وتينيت يحدق في الفضاء البعيد من خلال زجاج قمرة القيادة. استعرض تينيت في ذاكرته كيف قام العالم الفيزيائي الألماني "اوبن هايمر" والذي نقله الحلفاء معهم إلى أمريكا بعد سقوط ألمانيا، بإجراء تجاربه العلمية الذرية من خلال "برنامج مانهاتن" لإنتاج أول قنبلة ذرية في التاريخ تمت تجربتها في صحراء نيومكسيكو في تموز من العام 1945.
في ذلك الحين كانت الحرب العالمية الثانية قد وضعت أوزارها باحتلال الحلفاء لإيطاليا وألمانيا وقتل موسوليني ومن بعده انتحار هتلر واستسلام ألمانيا في السابع من أيار 1945.
وحدها اليابان بقيت تقاتل بعد انتهاء الحرب في أوروبا. قام الرئيس الأمريكي في ذلك الحين، هاري ترومان، بإصدار تحذير نهائي لليابان بالاستسلام قبل صدور الأمر بإلقاء القنبلة الذرية بعشرة أيام. رفضت اليابان الإنذار الأمريكي فأصدر ترومان قراره النهائي بإلقاء القنبلة وكانت حجته أنه بقتل عشرات الآلاف من اليابانيين فإنه ينهي الحرب نهائياً وينقذ حياة الملايين من البشر.
لا زلنا مع تينيت في الطائرة بعد خمس ساعات من الإقلاع حيث تم الدخول في المجال الجوي الياباني. لاحظ الرادار الياباني الطائرات الثلاث فلم يتصدى لها بسبب قلة عدد الطائرات المغيرة وبسبب علو ارتفاع طيرانها وكذلك بسبب الإرهاق والدمار الذي أصاب الدفاعات الجوية اليابانية حيث تم قصف كل المدن اليابانية لعدة شهور قبل إلقاء القنبلة الذرية.
تعمد الطيران الأمريكي عدم قصف مدن معينة وهي كيوتو، كوكورا، هيروشيما، يوكوهاما وناجازاكي بحيث تبقى أجواء هذه المدن نظيفة بدون تلوث وذلك حتى يتم اختيار إحداها لإسقاط القنبلة الذرية عليها. وصلت الطائرة فوق هيروشيما وطلب تينيت من مساعديه تفعيل القنبلة ونزع أجهزة الأمان عنها. نظر تينيت إلى الأسفل حيث هيروشيما وتذكر كيف تم اختيار هذه المدينة كهدف بسبب كونها منبسطة التضاريس وغير محاطة بتلال عالية مما يجعل القصف الذري بالغ التأثير لإيقاع أكبر قدر من الدمار والخراب والقتلى وذلك لإلقاء الرعب في قلوب اليابانيين ودفعهم للاستسلام.
كانت الطائرة تحلق على ارتفاع عشرة كيلومترات تقريباً عندما أصدر تينيت أمره بإسقاط القنبلة فانفجرت في الجو على ارتفاع كيلومتر واحد فوق أراضي هيروشيما في تمام الساعة 8.15 صباحاً بالتوقيت المحلي. اندفعت موجة الانفجار على شكل غيمة ضخمة بشكل الفطر وارتفعت إلى السماء لمسافة 18 كيلومتر وانخفضت إلى الأسفل نحو هيروشيما حيث هبت ريح عاصفة محملة بالغبار الذري فاقتلعت كل شيء أمامها واختفت البنايات وتلاشت الأشجار وأجساد البشر والحيوانات.
وقت إسقاط القنبلة كانت الفتاة تاكاكورا البالغة من العمر ثلاثين عاماً تعمل في قبو بنك هيروشيما المحصن جيداً، بعيداً عن مكان سقوط القنبلة بثلاثمائة متر، فأصبحت الناجية الوحيدة في منطقة قطرها أربعة كيلومترات. بقية سكان هيروشيما البالغ عددهم التقريبي في تلك اللحظة ثلاثمائة ألف نسمة كانوا إما في مصانعهم ومكاتبهم وأعمالهم أو في بيوتهم المصنوعة من الخشب والمغطاة بالقرميد أو يمشون في شوارعها ويلعبون في ساحات مدارسها وحدائقها.
نظر تينيت إلى الخلف ورأى غيمة الفطر الذرية وهي تلاحقه فزاد من سرعة طائرته حتى هبط في قاعدته العسكرية بسلام. في الثامن من آب عام 1945 قال هاري ترومان في خطابه للأمة الأمريكية "إذا لم يقبلوا بشروطنا ويستسلموا فعليهم أن يعلموا أن السماء سوف تمطر عليهم ناراً لم ترها الأرض من قبل".
لم تستسلم اليابان فتم إلقاء القنبلة الذرية الثانية التي كانت تحمل اسم "الرجل البدين" يوم الخميس التاسع من آب 1945 بعد ثلاثة أيام من إلقاء القنبلة الأولى. كان الهدف هو مدينة كوكورا ولكن كثافة الغيوم وتناقص وقود الطائرة جعل قائد الطائرة يتجه فوق مدينة ناجازاكي التي كانت أيضاً تغطيها غيوم كثيفة.
تدخل القدر فسمحت فتحة في الغيوم بمشاهدة معالم المدينة وتم إلقاء القنبلة عليها. مات في هيروشيما وناجازاكي مائتين واربعون ألف رجل وامرأة وطفل وتم جرح أكثر من مائتين وعشرين ألف شخص مات معظمهم فيما بعد من آثار الحروق والجروح والصدمات بالإضافة إلى عشرات الآلاف الذين ماتوا فيما بعد لوكيميا الدم وأمراض السرطان.
استسلمت اليابان في الخامس عشر من آب 1945 بعد ستة أيام من إلقاء القنبلة الذرية الثانية. في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي تم إجراء عدة مقابلات تلفزيونية مع بول تينيت الذي لم يظهر فيها أي تأنيب للضمير على ما فعل. قال في إحدى مقابلاته "لو عادت بي الأيام إلى الوراء لقمت بإلقاء القنبلة مرة أخرى. أنا فخور بما فعلت. لقد قمت بشيء لم يقم به أحد من قبلي وتدربت على إلقاء القنبلة وقمت بإعداد الخطط المناسبة وقمت بتنفيذ المهمة الموكلة لي على أكمل وجه. أنا أنام كل ليلة نوماً عميقاً هادئاً بدون أي ندم أو حسرة أو ألم".
عاش تينيت بعد إلقاء القنبلة حياة عاصفة حيث طلق زوجته الأولى وماتت زوجته الثانية. بعد تقاعده من سلاح الجو الأمريكي تم تعيينه ملحقاً عسكرياً في الهند فرفضت الهند هذا التعيين نظراً لماضيه. عمل في شركات طيران خاصة فلم يحقق أي نجاح يذكر. أصيب بهبوط في القلب وجلطات دماغية عديدة تركته مشلولاً قعيد الفراش مهملاً في بيت للعجزة حتى وفاته عام 2007 بدون أن يكون حوله أحد من عائلته.
طلب في وصيته عدم دفنه حتى لا يعتدي الناس على قبره بعد وفاته. تم إحراق جثته ونثر رمادها فوق القنال الإنجليزي في المكان الذي شهد بداية الحرب العالمية الثانية في ساحل نورماندى.
يصادف هذا الشهر الذكرى الخامسة والسبعون لالقاء القنبلة الذرية على هيروشيما وناجازاكي.