مع إنتهاء الدوام اليوم، نزلت إلى الشارع الرئيسي. وقفت على جانب الشارع في عز الحر منتظرا "تكسي".
مر أول "تكسي"؛ فأشرت له، لم يتوقف، معه راكب جالس من الأمام، علما أن القانون يمنع جلوس الراكب في المقعد الأمامي المجاور لمقعد السائق. ونظري سلامتك، "عقد حاله".
مر ثاني، ثالث "تكسي"، والحال من بعضه، لكن الركاب جالسين في الخلف، أي أنهم ملتزمون بأوامر الدفاع.
مر الرابع، "يا سلام" قلتها بعدما توقف ليقلني. ركبت في الكرسي الخلفي، ليصبح ثلاثة أرباع الشعب الأردني ملتزما بهذه القاعدة. ولو جلست في الكرسي الأمامي، لانتصفت النسبة. هذه عينة عشوائية بسيطة لا يقاس عليها، لكنها تعطي مؤشرا ولو خفيفا.
سار بي "التكسي" بعدما طلبت منه إيصالي إلى وجهتي. في الأثناء، دللت السائق على طرق مختصرة، حتى دخلنا شارعا ذا اتجاه واحد، وهو اتجاهنا. رأيت بعض السيارات القادمة باتجاه معاكس، أي الإتجاه الممنوع، ورحت أنتقد بلسان لاذع عدم التزام المواطن الأردني بالقوانين، وعرجت في النقد الى الذين لا يلتزمون بأوامر الدفاع الخاصة ب"الكورونا".
هنا قال لي السائق أنه لا يصدق بوجود "الكورونا". وراح يروي لي كيف أنه اتصل هاتفيا بنفسه مع أحد الذين طالتهم شهرة واسعة عندما أُعْلِن عن إصابته بالكورونا كونه جارا له في نفس المنطقة، ليطمئن عليه، والمصطفى أوصى بسابع جار كما يُرْوى عنه، وأن جاره هذا حلف للسائق بأغلظ الأيمان أنه ليس مصابا.
حاولت بالتي هي أحسن اقناع السائق بوجود "الكورونا"، وشرحت له وجهة نظري التي لا يتسع لها صدر المقال لطولها وعمقها، ولا حياة لمن تنادي، "بهاي طينة، وبهاي عجينة"! لا بل روى لي حكاية أخرى عن طبيب يعمل في مستشفى خاص كان قد، صعد معه ذات مرة، وأن الطبيب أخبر السائق بعدم وجود "الكورونا". ومن يصدق أن طبيبا يعمل في مستشفى خاص يستخدم "تكسي"؟ لربما، وما أدرانا؟
اقتربنا من البيت، وقلت للسائق: "بعد الدوار، خذ يسارك إذا سمحت" لكنه لشدة احترامه لقوانين السير، انعطف يسارا قبل الدوار، ومن هنا تتكون فكرة لدينا عن ثقافة هذا السائق.
ولما وصلت إلى البيت، قلت له: "بالمناسبة، أنا معي كورونا". جفل السائق والتفت الي سريعا قائلا: "أسألك بالمصحف الكريم، هل حقا معك كورونا"؟ قلت له:" أنا ولدت مسيحيا، وابن مريم أوصانا ألا نحلف، لكن بإمكانك أن تضع يدك على جبيني لتتحسس بنفسك الحرارة الشديدة عندي، ثم لماذا أنت... " وهنا قاطعني السائق بعدما بلع ريقه، وقال لي بصوت عال قليلا: "يستر على ولاياك تنزل من السيارة" قلت له: "حسنا، لكن أريد أن أعطيك أجرتك"، قال لي بنبرة حادة: "عمي مسامحك دنيا وآخرة، يستر على عرضك تنزل" فنزلت من السيارة.
وما أن أغلقت الباب حتى داس على ال" البنزين" وانطلق انطلاقا لا يشق له غبار، بينما ملأتني شفقة على هذا المسكين الذي صدق "كذبتي البيضاء" بشأن إصابتي ب "الكورونا".
هذه عينة من المجتمع الأردني التي لا تقتنع، لا بالبرهان الساطع ولا بالدليل القاطع، ولما تقع الفأس بالرأس، آنذاك فقط، تشعر هذه العينة بحمى الوضع.
إذا كانت نسبة من الناس لا تؤمن بال "كورونا" رغم كل هذا الصخب الإعلامي، وكل هذا الدفق الإخباري، فلا غرو إذن ولا عجب أن الناس الذين كانوا أحياء في عهد من أُطْلِق عليهم أنبياء ورسل لم يؤمنوا بهم.
أردت أن أستشهد ببيت الشعر التالي:
وحدث العاقل بما لا يعقل
فإن صدق فلا عقل له،
لنرى معا حجم مصداق هذا البيت على السائق وأمثاله، لكنني ترددت، والسبب أن الشاعر هنا يتحدث عن "عاقل مطلق"، مما يعني بالضرورة وجود "عقل" متساو عند جميع الناس في النظر إلى الدنيا، وهذا ما لا أعتقد بوجوده، ذلك أن "العقل" يتدرج في قدراته وامكانياته، أي أن "العقل" نسبي في رؤيته لما حوله من مسائل وقضايا، وعليه، لربما كان السائق "أعقل" مني في مسألة غير مسألة "الكورونا"؛ فاشفقوا علي حينها!