إرتفاع الأسعار خلال الجائحة
د. دانييلا القرعان
24-08-2020 07:59 PM
فوجئ المتسوقون حول العالم في بداية جائحة كورونا بخلو أرفف المتاجر والمولات والمؤسسات والمحال التجارية في بادي الأمر من السلع في أعقاب تفشي فيروس كورونا المستجد، ما حدا بالكثير إلى تغيير أنماط التسوق سواء بالشراء من المتاجر الصغيرة أو تفادي التسوق في الأوقات التي يشتد فيها الازدحام في المتاجر أو الاستغناء عن بعض الاطعمة الأساسية أو حتى شراء السلع بأسعار أعلى من المعتاد، إذ ارتفعت أسعار بعض السلع مؤخراً ارتفاعاً فلكياً بعد أن أشتد الطلب عليها، على سبيل المثال على "الصعيد العالمي" وصل سعر قوارير سوائل تعقيم اليدين إلى 10 يورو للقارورة الواحدة في إيرلندا، وتجاوز سعر صندوق صغير من الكمامات 200 دولار في الولايات المتحدة، وأثار إرتفاع أسعار اللحوم والعدس والأرز في المملكة المتحدة غضب واستياء المواطنين، أما على "الصعيد المحلي" في الأردن ارتفعت الكمامات الواقية بشكل كبير وكذلك المعقمات والمنظفات في كافة أنواعها وذلك استغلال بعض التجار للظروف الطارئة وحاجة المواطن الشديدة لها، ولكن إرتفاع الأسعار سواء على الصعيد العالمي أو الصعيد المحلي يرى البعض أن إرتفاع الأسعار في اوقات الازمات أحيانا يكون مبرّراً، لكن ثمة فارقاً بين إرتفاع الأسعار الذي يعكس التكاليف المرتفعة لتشغيل المتاجر في الظروف الاستثنائية وبين التلاعب بالأسعار لجني أرباح مبالغ فيها بإستغلال حاجة المستهلكين، ولا سيما بعد الصدمات أو في ظل أوقات الأزمات، لكن في ظل ازدهار التسوق الإلكتروني عبر الإنترنت بات من الصعب تمييز الارتفاع المبرر في الأسعار والذي يعكس زيادة المخاطر والتكاليف وتحديد المواطن الأكثر تأثراً بإرتفاع الأسعار من سلاسل الإمداد.
وقد يرجع النقص في بعض المواد الغذائية في بداية جائحة كورونا إلى تهاتف الناس على الشراء بكميات تفوق احتياجاتهم، ومن الملاحظ أن سلاسل إمداد المواد الغذائية لا يمكنها التكيّف سريعاً لمواكبة الزيادة الكبيرة في الطلب بسبب إقبال الزبائن المواطنين على تخزين السلع كما هو الحال قبل الكوارث الطبيعية أو أثناء جائحة كورونا، وكثيراً ما يكون التأخير في تعويض النقص في السلع مؤقتاً حتى يتمكن الموزعون والمصنعون من تلبية الطلب المتزايد على سلع بعينها،ويؤثر تغير الطلب والقيود على التحرير في بعض الدول على أسعار السلع، بينما انخفضت أسعار بعض السلع مثل السكر فقد ارتفعت أسعار سلع أخرى مثل الأرز، لكن هذه التغيرات في أسعار المواد الغذائية قد لا يطبقها تجار التجزئة على الفور، وقد يعمد تجار التجزئة إلى رفع الأسعار بسبب النقص الناتج عن تأخر الإمدادات وارتفاع الطلب وقد يضطر المستهلك أن يشتري السلع بأسعار أعلى من سعرها الأصلي، ولهذا قد تقرر بعض الحكومات وضع حد أقصى لأسعار السلع.
إن وضع سقف لأسعار السلع قد يفاقم مشكلة نقص السلع؛ لأنه يشجع المستهلك على تخزين السلع منخفضة التكلفة وفي الوقت نفسه لن يتحمس المصنعون لإنتاج سلع ذات هامش رح منخفض،ولهذا يفضّل برأيي تحديد سقف للمشتريات.
"الغلاء في زمن كورونا"، لا يمكن القول إلا أن جهد الدولة كانت كبيرة ومتشعبة في مواجهة فيروس كورونا، حيث وفرّت من الكوادر البشرية والإمكانيات المادية والكثير مما ساعد في بداية الأمر على محاصرة الوباء والحد من إنتشاره بشكل يفوق بكثير ما حدث في دول أخرى أوروبية وأمريكية في الوقت الذي كان من المتوقع أن تتعامل مع هذه الجائحة بشكل مختلف يتناسب مع خطورتها وما يمكن أن تتركه من آثار سلبية على مواطنيها، وجاء تعاطي المواطن والمقيم في بعض الأحيان مع هذه الجائحة على مستوى من الوعي يستحق التقدير وإن كان هنالك بعض التجاوزات والأخطاء من قبل المواطن والحكومة في التعامل مع هذا الوباء،إلا أن الوقت كفيل بتعميق الشعور بالوعي من قبل "المواطن والحكومة" وضرورة بذل المزيد من الجهود والتقيّد بالتعليمات والضوابط الصحية والأمنية للتقليل من خطر انتقال العدوى والحد من انتشار هذا الوباء الخطير الذي ما زال هو الشغل الشاغل لجميع دول العالم،وما يؤسف له أن بعض التجار في ظل الجائحة لجأوا إلى استغلال هذا الظرف المحرج في حياة الناس عن طريق رفع أسعار بعض المواد والسلع الرئيسية الغذائية والتموينية والمواد الاستهلاكية وفي وقت كان يجب عليهم أن يكون تعاونهم واضحاً للإسهام في توفير راحة للمواطنين والمقيمين وهو الهدف الأسمى الذي تسعى له الدولة لتحقيقه.
رفع أسعار بعض المواد والسلع الرئيسية الغذائية لا يدل فقط على جشع أولئك التجار ولكنه يدل أيضا على غياب الشعور بالواجب الإنساني تجاه غيرهم،ونحن هنا لا نطالبهم بتثبيت الأسعار بشكل يمكن أن يجلب لهم الخسارة لكننا نطالبهم بأن تكون الأسعار معقولة تضمن لهم هامشاً ربحياً لا يرهق كاهل المستهلك، وفي يقيني أن الجشعين من التجار _ وهم قلة الحمد لله _ لا يمكن أن يردعهم سوى الرقابة المشددة من الجهات المختصة؛ لحماية المستهلكين من التلاعب بالأسعار ومراعاة لأصحاب الدخل المحدود الذين ترهق كواهلهم أي زيادة في الأسعار فليس كل الناس من ذوي الدخل الذين لا يشعرهم ولا يؤثر بهم إرتفاع الأسعار بأي قلق، ومع أن رفع الأسعار هو بالأساس أمر مرفوض وخاصة في زمن الأزمات التي تفرض على المجتمع التعاون بل والتضحية من أجل تجاوز الأزمة بسلام دون أن يتحمل الفرد ضغوطاً مادية إلى جانب ما يتحمله من ضغوط نفسية أو إجتماعية ناجمة عن مثل هذه الأزمة التي اجتاحت العالم بأسره.
طبعاً نحن لا نشكك في وطنية تجارنا والكثير منهم لهم مواقف مشرفة في خدمة الوطن والمشاركة في المناسبات الوطنية المختلفة بجهودهم وأموالهم وحرصهم على رفعة الوطن وازدهاره والإسهام في توفير الرخاء بدعم سخي من الدولة، لكننا هنا نعطي بعضاً من التجار الذين استغلوا هذه الجائحة لرفع أسعار بضائعهم دون وجه حق، في وقت يفترض فيه أن يراعوا ظروف عامة الناس وأن يكتفوا بالربح القليل الذي لا يشكل عبئاً على المستهلك وفي الوقت نفسه لا يحمّل التاجر أي خسارة مباشرة في تشويق بضاعته خاصة فيما يتعلق بالمنتجات الزراعية والأسماك والدواجن وهي منتجات محلية لا علاقة لها بمعوقات الاستيراد التي فرضتها الظروف الإقتصادية العالمية.
هؤلاء التجار _ وهم قلة_ أخذوا الكثير من خيرات البلاد وعليهم أن يُسايروا الأوضاع الحالية ويحافظوا على أسعار بضائعهم لتستمر كما كانت قبل إنتشار هذا الوباء وهذا واجب وطني إلى جانب كونه واجباً دينياً وأخلاقياً وفي الوقت نفسه لا بدَّ من التأكيد على أهمية مراقبة الأسعار من قبل الجهات المختصة وبشكل مستمر حتى لا يتمكن بعض الباعه من التلاعب بالأسعار، إذ ربما وجد في المحلات من الباعه من تسول له نفسه التلاعب بالأسعار دون علم التاجر نفسه وهذا لا يعفي التاجر من المسؤولية بأي حال من الأحوال.
"الجشع والأوبئة... كيف عانى المسلمون من إرتفاع الأسعار في اوقات الطواعين قديماً؟"، أسوأ ما قد يعانيه الناس في أوقات إنتشار الأوبئة هو إستغلال البعض للأزمة لرفع الأسعار أو سحب الناس وتخزينهم لعدد كبير من السلع مما يؤدي إلى غلاء هذه الأسعار وهو الأمر الذي حذرت منه الحكومة في أكثر من مناسبة بعد تفشي أزمة كورونا ويبدو أن أزمة غلاء الأسعار واختفاء السلع مرتبطة ارتباط وثيق بإنتشار الأوبئة والطواعين، وربما كتب التراث والدراسات التاريخية شاهده على العديد من المواقف التي ربطت بين غلاء الأسعار وجشع التجار في زمن الأوبئة وانتشار الطواعين، فمن الناحية الإجتماعية أدت الأوبئة في العهد المملوكي مثلاً إلى اختلال التركيبة السكانية والذي أدى بدوره إلى تباين كبير في الكثافة السكانية بين المدن والقرى، إذ أن كثيراً من القرى اختفت تماماً بفعل الوباء فنتج عن ذلك تغير ديموغرافي حيث قلَّ عدد الفلاحين وقلت المنتجات والمحاصيل الزراعية والحيوانية ونتج عن ذلك كله غلاء شديد في الأسعار وزاد الأوضاع الاقتصادية سوءاً، ولجأ بعض ضعاف النفوس من التجار وأرباب الصنائع إلى إستغلال الأزمة بإحتكار السلع الغذائية لزيادة ثروتهم،بينما مال بعض المحتاجين والمعدومين إلى السرقة والاحتيال والذي أدى بالضرورة إلى إنهيار أخلاقي في المجتمع،وفي مشهد آخر من مشاهد وباء الطاعون الكبير والذي ضرب الكثير من الدول قديماً ومن بينها مصر ما بين عامي 1347 _ 1349 يُحكى المؤرخ إبن إياس في كتابه "بدائع الزهور في وقائع الدهور" عن وباء الطاعون الذي ضرب مصر وما ألحقه من أزمة إقتصادية قائلاً: "واشتد أمر الفناء والغلاء بالديار المصرية وعمَّ سائر ضواحيها ومات من اهل القاهرة والفلاحين نحو النصف،فلما اشتد أمر الغلاء وكثر الطعون نادى السلطان في الناس أن يصوموا 3 أيام متتالية وأن يخرجوا إلى الجوامع"، وكذلك مشهد آخر من مظاهر إرتفاع الأسعار في ظل الطواعين والأوبئة قديماً، الطاعون لم يوقف جشع السلطان المملوكي "برسباي" والذي كان مشهوراً بإحتكار التجارة الشرقية بحسب ما كتب الباحث أحمد صبحي منصور في دراسته بعنوان " أكابر المجرمين في طاعون 833"، وفي دراسة أخرى في كتاب "أسواق فاس في العصر المريني" للكاتبة هالة عبد الرازق فإنه عندما ضرب الطاعون الكبير مدينة فاس المغربية حلَّ الجفاف وارتفعت الأسعار وانهارت أسواق فاس وذلك في عهد السلطان أبي زيان المريني،ومشهد آخر يعطي علي بن عبدالله بن محمد بن حيدور في كتابه" التمحيص في شرح التلخيص" أسباب أخرى لإنتشار الأوبئة والجوائح في الاقطار حيث ربطها بالجفاف وقلة الغذاء التي تدفع الناس إلى عدم الاحتياط مما يسبب الوباء، وفساد الأغذية في زمن المجاعات وغلاء الأسعار ويضطر الإنسان إلى تناول غذاء غير مألوف قد فسد وتعفن لطول زمانه فينفسد المزاج من هذه الاغذية وتحدث الأمراض القاتلة، وفي كتاب "جوانب من الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العصر المملوكي" يذكر المؤلفين فتحي سالم وفائز الحديدي أنه في مستهل رمضان سنة 1488 ضربت مصر أزمة إقتصادية أدت إلى موجة غلاء شديدة نتج عنها تفشي وباء الطاعون