لا أزعم أننا نعيش في دولة من دول الشمال الأوروبي، وأننا قد وصلنا إلى درجة عالية من الرفاه الاقتصادي والمعيشي، ولا أننا نتمتع بديمقراطية ناجزة تقوم على قواعد راسخة من عقد اجتماعي مدني واحترام حقوق الإنسان وتداول السلطة وتقديس الحريات العامة؛ لكن في المقابل لا أرى أنّ الأردن دولة شمولية استبدادية بوليسية، ولا دولة فاشلة اقتصادياً يعاني فيها أغلب الشعب من حالة من الحرمان والجوع والذلة! ولا دولة منهارة أمنياً لا يأمن فيها المرء على نفسه من العصابات المسلحة وفرق الموت والقتل والتطهير الطائفي والعرقي!
مشكلة تيار عريض من السياسيين والمثقفين، والمواطنين، أنه لا يرى البلد إلاّ بمنظور أسود متشائم، وأحياناً عدمي، فيبدأ بممارسة جلد الذات، وكأننا أمام نزعة "مازوشية" تستمرئ الشعور الدائم بالقهر والاضطهاد! أو نزعة محبطة محصلتها الشعور باليأس وعدم جدوى الإصلاح والانجرار إلى أنّنا نعيش في بلد "أسود" أو بتعبير أحد قادة العمل السياسي "بلد العجائب!".
هذه النزعة تكون متروكة لصاحبها وثقافته وميوله إذا كانت تعبيراً فردياً تنعكس عليه شخصياً، لكنها تصبح عبئاً ثقيلاً وحالة خطرة إذا ظهرت بصيغة جماعية وأصبحت تلقي بظلالها على المزاج الثقافي والسياسي، وباتت ديدن خطاب ثقافي وسياسي يوجه الرأي العام ويؤثر عليه في العديد من القضايا الحيوية والمفصلية، ما يرسم صورة غير صحيحة عن المشهد العام ليس فقط من الخارج، بل من الداخل أيضاً، فتتآلف الدعاية الخارجية والداخلية في تقديم قراءة أقل ما يقال عنها أنها غير موضوعية ومتحيزة.
غريب أمر الأردن! مهما كان براً وفياً لمواطنيه فإنه يعاني من نكران الجميل! فإذا تحدث بعض الكتاب عن قمع الحريات والسجن التعسفي والاعتقالات ضد المعارضة والتعذيب الشديد في السجون والمعتقلات في بعض الدول العربية تجد من التعقيبات والتعليقات من القراء والمتابعين التي تقارن بين الأردن وتلك الدول، مع أنّ أدنى درجات الإنصاف والموضوعية تشير أنه لا مجال للمقارنة بين دولة يلتقي فيها المسؤولون والمعارضة ويتعاتبون ويتحول المرء إلى معارض ثم يعود إلى العمل العام، وربما يتولى مناصب عليا، دون أن يشعر للحظة أنه سيفقد رأسه نتيجة معارضته الشرسة وبين دول مصير المعارضة فيها السجون والمعتقلات والتنكيل ومصادرة لقمة الخبز والحرية!
هل يمكن مقارنة أوضاع المخيمات الفلسطينية في لبنان وسورية بأوضاعها في الأردن! اسألوا أهل تلك المخيمات أنفسهم! لكن عندما كُتب في الصحف الأردنية حول الأوضاع المأساوية للاجئين الفلسطينيين في المخيمات اللبنانية كُتبت بعض التعليقات تستنكر القفز عن حالة المخيمات في الأردن وعدم الحديث عن المعاناة فيها! ومع أننا نطالب دوما بتحسين شروط الحياة في المخيمات وأغلب المناطق، إلاّ أن المخيمات الأردنية ليست معتقلات جماعية ولا (غيتوات) وسكانها يتمتعون بالمواطنة الكاملة ويملكون الحد الأدنى من الفرص الاقتصادية والسياسية التي تمنح لغيرهم من المواطنين. ولو أننا قارنّا الأوضاع الاقتصادية للمخيمات بقرى في الجنوب الأردني وبعض قرى الوسط سنجد أن هذه القرى أقل دخلاً وأشد فقراً ومعاناة وغيابا للفرص الاقتصادية وضعف بنية الاستثمار فيها.
الحالة نفسها تنطبق على علاقة الدولة بالإسلاميين، فهل يتعرض الإخوان الأردنيون لما يتعرض له أشقاؤهم بمصر! هل تمنع الجماعة في الأردن وتعتقل قياداتها ومئات من أعضائها لأنهم ينتمون إلى جماعة "الإخوان"! هل يجلس في مصر أو في سورية، مثلاً، قادة جماعة الإخوان مع رئيس الحكومة فيتناقشون، ويرد كل منهم حجج الآخر!
وفي الوقت الذي لا نسمع فيه كلمة واحدة "علنية" صريحة من أقطاب المعارضة والمثقفين الثوريين تنتقد حالة حقوق الإنسان في سورية، مثلاً، تطالب هذه القوى نفسها الدولة – هنا- بتطبيق كامل للمعايير الديمقراطية دون أدنى انتهاك، ونحن نوافق على هذه المطالب، بل نسير أمام الصفوف المنادية بها، لكن ما نطالب به أيضاً أن تتخلى المعارضة الأردنية عن "ازدواجية المعايير"، فلا تمدح نظاماً أمنياً بوليسياً لا يوجد لديه أي هامش للحرية وتخشى أن توجه له جملة انتقاد واحدة في الإعلام، بينما تحاسب الحكومة هنا على دقائق الأمور.
بالطبع ليس المطلوب أبداً القفز عن حق المعارضة والمطالب المشروعة بالإصلاح السياسي وبالعدالة الاجتماعية وبتقديس حقوق الإنسان والحريات العامة، ورفض تدخل الأجهزة الأمنية في الحياة السياسية والمطالبة بقانون انتخابات عصري وتداول للسلطة ومحاربة حقيقية حاسمة للفساد السياسي.
ولا يستطيع أحد أن ينكر أن المسار الاقتصادي قد وصل إلى مرحلة حرجة تعزز من الفجوة الطبقية وأزمة المركز والأطراف واتساع طبقة المحرومين وازدياد أعباء الحياة على الطبقة العاملة مع ارتفاع الأسعار والغلاء ونسبة التضخم العالية، وقد صدر تقرير الايكونومست ليكشف أن عمان هي أغلى عاصمة عربية، ما يؤكد أنّ هنالك ضرورة قصوى لمراجعة المسار الاقتصادي بأكمله.
لكن في المقابل فإنّ المطلوب، أولاً، إنصاف الأردن وقول كلمة حق في الانجاز الذي وصل إليه من استقرار أمني ونمو اقتصادي معقول ودرجة من التسامح السياسي في ظروف إقليمية عاصفة تطيح برؤوس دول كبيرة وتتلاعب بأقدار واستقرار الدول الصغيرة.
والمطلوب، ثانياً، تقديم خطاب معارض عقلاني- واقعي يقرأ الانجاز والإخفاق والممكن والمطلوب من دون فرض أجندات سياسية قسراً على الواقع السياسي لا تملك تطبيقها دولة كبرى بموارد اقتصادية هائلة، أو حتى أجندات شخصية لمن لم تتحقق مصالحه الخاصة ويريد تحسين أوضاعه من خلال امتهان جلد الدولة والركون إلى سياسة "الاسترضاء"!
ثمة مشكلة كبيرة في الخطاب السياسي الأردني إذ يقع بين حدين؛ إما خطاب مدائحي مبتذل يتجاوز كثيراً من أزمات الواقع ومشكلاته ويرتهن إلى مصالح خاصة بمن يتبنونه، فلا يحظى بأية مصداقية لدى الرأي العام والمجتمع، وإما خطاب أسود يشوه صورة الدولة يوحي للآخر وكأن الناس تعيش هنا في الجحيم بينما من يقارن بين هذه الدولة ودول أخرى يدرك تماماً أن المقارنة ظالمة ابتداءً.
بالتأكيد لست مع المقارنة بالأقل أو الأدنى ومع التطلع دوما إلى الأمام، لكن التذكير في الحالة الأردنية مفيد جداً!