قدرت فكرة الإعلان عن ذهاب الرئيس مبارك لإجراء فحوص طبية على المرارة في مركز هايدبرج الطبي بألمانيا. ووجدت في إذاعة الخبر أداء إعلاميا رصينا، يحترم الرأي العام ويحيط الناس علما بالحقيقة، ويقطع الطريق على الشائعات التي لا بد أن تتردد حين يتسرب خبر دخول الرئيس للمركز الطبي إلى الصحف الألمانية، مع ما يترتب على ذلك من تهويل وبلبلة.
لا أعرف ما إذا كانت هذه "الشفافية" تصرفا استثنائيا أم قاعدة جديدة، كما أنني لست متأكدا من أن الذين أذاعوا الخبر هذه المرة أرادوا أن يتجنبوا اللغط الذي أثارته صحيفة "الدستور المصرية" في وقت سابق، حين نشرت معلومات عن صحة الرئيس قوبلت بقمع سريع لرئيس تحرير الجريدة إبراهيم عيسى، كاد يضمه إلى نزلاء سجن طرة. لكنني واثق من أن تعميم الخبر بالصورة التي حدثت أراح كثيرين ممن لا يجدون تفسيرا مقنعا لكثرة سفرات الرئيس إلى أوروبا، ومحدودية جولاته العربية التي لا تتجاوز منطقة الخليج وليبيا.
أبرزت الصحف المصرية خبر اجتماع الرئيس مبارك مع المستشارة الألمانية السيدة ميركل، لكن مختلف المؤشرات دلت على أن هدف الرحلة كان العلاج، وليس حضور ذلك الاجتماع. يؤيد ذلك أن الرئيس اعتاد في رحلاته أن يصطحب وفدا وزاريا وآخر إعلاميا، وذلك لم يحدث هذه المرة، حيث لم يكن معه من الوزراء غير وزير الصحة.
إلى جانب ذلك، فنحن لم نر صورا للمحادثات بين الطرفين المصري والألماني، الأمر الذى يعطي انطباعا قويا بأن اللقاء كان من قبيل الترحيب والمجاملة لا أكثر، وحسبما فهمت من بعض الدبلوماسيين فإن السلطات الألمانية حين أبلغت باعتزام الرئيس إجراء الفحوصات الطبية، فإنها وجهت إليه دعوة رسمية لزيارة البلد، وتم ترتيب برنامجه بصورة تليق بحسن استقباله. ولقاء المستشارة الألمانية جرى فى هذا الإطار الذي أريد به الترحيب به والتعبير عن مشاعر الود إزاءه.
الإعلام الحكومي في مصر لم يتعامل مع الحدث في هذه الحدود، ولا غرابة في ذلك، فقد اعتاد أن يعتبر كل تصرف للرئيس حدثا سياسيا جللا، وكل زيارة تاريخية، وكل خطبة دليل عمل، وكل طرفة عين قرارا جمهوريا، لذلك لجأ بعض الكتاب الحكوميين إلى النفخ في الزيارة، واعتبارها لقاء لقمم الزعامات الإقليمية، تطرق إلى هموم وأوضاع الاتحاد الأوروبي، وإلى قائمة مشكلات العالم العربي والشرق الأوسط.
في هذا السياق قرأت كلاما مغلوطا ومضحكا عن موقف ألمانيا من ملف الصراع العربي الإسرائيلي ومساعيها لإقرار السلام في المنطقة. وهو كلام استخف بعقل القارئ وراهن على ضعف ذاكرته، لأن ألمانيا -خصوصا في عهد السيدة ميركل- لها موقف واضح في الانحياز إلى إسرائيل سياسيا وماليا وعسكريا.
مثل هذا النفخ المفتعل الذي لا يتردد في التدليس على القارئ ليس جديدا على الإعلام الحكومي، الذي دأب على التعامل مع رحلات الرئيس وجولاته باعتبارها ظواهر خارقة للعادة، وفي بعض الأحيان يقوم الرئيس بزيارات خاطفة تستغرق الواحدة منها عدة ساعات، لا تحتمل أكثر من حضور اجتماع يحقق المراد والمشاركة في غداء أو عشاء من باب التكريم. ومع ذلك تخرج علينا الأبواق الإعلامية بتقارير مطولة في الزيارة، وتؤكد لنا أنها بحثت كل هموم الأمة، من فلسطين إلى دارفور والحوثيين وانتهاء بالملف النووي الإيراني.
لقد رأينا في إعلان خبر الفحوصات الطبية صورة الرئيس الإنسان، الذى يتعرض لما يتعرض له غيره من البشر من أوجاع ونوازل، ولكن الإعلام الحكومي يظل مصرا على أن الرئيس ليس من طينة البشر العاديين، ولكنه من جنس آخر تصنعه المقادير على يديها، لتصطفى منه أناسا معينين لقيادة الأمم وصناعة التاريخ، مع أن الصورة الأولى أقرب إلى قلوب الناس وعقولهم. وهم الذين يتعاطفون مع الرئيس الإنسان ويدعون له بالشفاء. أما الرئيس المعجزة فإنهم يجدونه محلقا في فضاء بعيد عنهم وغير منسوب إليهم، الأمر الذي يحدث مفعولا عكسيا، لأن أسلافنا علمونا أن ما زاد عن حده انقلب إلى ضده.
عن السبيل ..