حكايتي مع الدكتور الخليفة
د. بلال العياصرة
21-08-2020 09:32 AM
بِرزان ووقار وكبرياء، كان الراحلُ العظيم يجلسُ في مكتبه بكل بهاء، وكنتُ وقتئذ طالب دراسات عليا، في مجال الترجمة في "الأردنية" الغراء. طلب منا أستاذنا، أستاذ الشرف ألبرت بطرس -(شافاه الله وعافاه)- بحثا مقتضبا حول حال "النحت" في العربية ومقارنة ذلك مع الإنجليزية، ومن أحسن من أستاذ الشرف عبد الكريم خليفة, لأغرف الكأسَ الدهاق الدفاق الرقراق من نهيل علمه الخِضَم، وبحره العرمرم؟! (وقد دلني على كتاب قيم، لأستاذ الشرف نهاد الموسى -(أطال الله بقاءه)- بعنوان "النحت في العربية"، كان يزين رفوف مكتبة "الأردنية)- فاستأذنته بموعد لقاء، وتكرم علي به بمنتهى السخاء. ولدى دخولى عتبة مكتبه المهيب، حسبتُ للوهلة الأولى أنني أمام "عباسي" أو "أموي" من الزمن الجميل: هالة آسرة، مغلفة بالتواضع الرهيب. يقف الشيخ الجليل (وقفة كاملة غير منقوصة)- وقد بلغ من عمره عتيا، واشتعل رأسُه شيبا- يقف بوجه طالب عشريني (من أحفاد أحفاده)، ويرد علي تحيته الإفرنجية بملحها الأجاج، بتحية عربية خالصة، عذب ماؤها، حلوة المذاق، كالشهد الترياق. أدركتُ عندها أنني في ورطة كبيرة- ورطة العمر، طالبا من الله الستر... واليُسر بعد العُسر، ودار بيننا- فيما دار- هذا الحوار، فهاكموه.
عِنْدَمَا دَخَلْتُ عَلَيْهِ ذَاْتَ صَبَاْحٍ، وَقَدْ كُنْتُ غَاْرِقَاً فِيْ بَحْرِ اللُّغَةِ الإنْجِلِيْزيَّةِ وَمُنْغَمِسَاً فِيْهِ، لَمْ يُحَاْلِفْنِيَ الْحَظُّ عِنْدَمَاْ ألْقَيْتُ عَلَيْهِ تَحِيَّةَ ذَلِكَ الصَّبَاْحِ بالإنْجِلِيْزِيَّةِ، الَّتِيْ تَغَلْغَلْتْ فِي الْحُلوْقِ وَسَكَنَتْ فِي الْعُرُوْقِ. فَغَضِبَ، وَرَدَّ بِصَوْتٍ عَذْبٍ: "وَعَلَيْكُمُ السَّلاْمُ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ!" لَمْ اسْتَطِعْ وَقْتَئِذٍ أنْ أنْطِقَ بِبِنْتِ شِفَاْهٍ. لَفَّتْنِيَ الْحِيْرَةُ وَتَمَلَّكَنِيَ مَزِيْجٌ مِنْ مَشَاْعِرِ النَّدَمِ- وَلاتَ حِيْنَ مَنْدَمِ. فَطَفِقْتُ اعْتَذِرُ وَلَكِنَّهُ، بِأدَبِ العُلَمَاْءِ الجَمِّ وَدَمَاْثَتِهِمْ "كَاْمَلَةِ الدَّسَمِ"، رَبَتَ عَلَى كَتِفِي بِيَدٍ رَءوْمٍ، وَقَاْلَ:"اجْلِسْ يَاْ بُنَيَّ.. لا عَلَيْكَ". لَمْ أصَدِّقْ أنَّهُ غَفَرَ لِي زَلَّتِي وَعَفَاْ عَنْ هَفْوَتِي. جَلَسْتُ، وَمَاْ زِلْتُ أتَلَعْثَمُ، تَاْرِكَاً صَمْتِي يَتَكَلَّمُ، وَظَلَّتْ تَلُفُّنِي الحِيْرَةُ وَيَكْتَنِفُنِي النَّدَمُ. فَقَدْ زَلَلَتُ فِيْ حَضْرَةِ "الْخَلِيْفَةِ!".
حِيْنَئِذٍ، شَرَعَ الشَّيْخُ يُحَدِّثُنِي- وَالْعَبْرَةُ تَقْطُرُ مِنْ عَيْنَيْهِ، وَالْحَسْرَةُ تَرْتَسِمُ عَلَى وَجْنَتَيْهِ، وَالْغَصَّةُ تَسْكُنُ فِيْ أصْغَرَيْهِ- شَرَعَ يُحَدِّثُنِي عَنْ حَاْلِ لِسَانِ الضَّاْدِ وَمَآلِهِ، وَكَيْفَ عَقَّهُ أهْلُوْهُ وَعَقَرُوْهُ، وَوَأدُوْهُ وَهَجَّنُوْهُ، وَهَشَّمُوْهُ وَهَمَّشُوْهُ... وَسَاْرُوْا وَهَجَرُوْهُ. وَظَلَّ الشَّيْخُ الْكَلِيْمُ يَرْمِي بالَّلائِمَةِ وَالْعَتَبِ، عَلَى أُمَّةِ الضَّاْدِ... أُمَّةِ الْعَرَبِ. ثُمَّ سَاْقَنِي إلَى مَاْ لَذَّ وَطَاْبَ مِنْ حِكَاْيَاْتِ الْفِكْرِ وَالأدَبِ. وَاسْتَفَاْضَ فِيْ حَدِيْثِهِ الشَّجيِّ الرَّقِّ الرَّخِيْمِ، فَأسْهَبَ وأطْنَبَ وأطْرَبَ. ثُمَّ سَاْرَ بِيَ الْهُوَيْنَى، يَرْسُمُ لِيَ الْدَّوْرَ الَّذِيْ يَضْطَلِعُ بِهِ الْمَجْمَعُ فِي الْعَمَلِ الْمُعْجَمِيِّ وَالْتَّرْجَمَةِ والتَّعْرِيْبِ، وَغَرْبَلَةِ العَرَبِيَّةِ مِمَّاْ أصَاْبَهَاْ مِنْ شَوَاْئِبِ الْغَزْوِ الْفِكْرِيِّ وَالتَّغْرِيْبِ. وَمَاْ فَتِئَ الرَّجُلُ يُحَدِّثُنِي بِأحَاْدِيْثٍ ذَاْتِ شُجُوْنٍ فَجَّرَتْ إحْسَاْسِي، الْتَقَطْتُّ عَلَى إثْرِهَاْ بَعْضَاً مِنْ أنْفَاْسِي، فَهَدَأ الْبَاْلُ واطْمَأنَّ بِلال. وَسُبْحَاْنَ مُغَيِّر الأحْوَاْلِ!
وأذْكُرُ أنَّهُ كَاْنَ فِيْ جُعْبَتِي سُؤاْلان يَتَّصِلان بالنَّحْتِ فِي العْرَبِيَّةِ مُقَاْرَنَةً بالإنْجِلِيْزِيَّةِ، كَالْبَسْمَلَةِ والْحَمْدَلَةِ والسَّبْحَلَةِ والْحَسْبَلَةِ والْهَلْهَلَةِ والْحَوْقَلَةِ وَمِئاْتٍ مِثْلِهَاْ- مَاْ سَمِعْتُ بِهَاْ مِنْ قَبْلُ- غَصَّ بِهَاْ دَفْتَرِي وَفَاْضَ بِهَا مَحْبَري قَبْلَ أنْ أبْرَحَ الْمَكَاْنَ بِكَأسٍ دِهَاْقٍ مَلآن. سُؤالان اثْنَان تَذَكَّرْتُ أوْلاْهُمَاْ وَنَسِيْتُ الآخَرَ- وَلَمْ اسْتَذْكِرْهُ حَتَّى انْصَرَفْتُ مِنْ مَجْلِسِهِ. وَأنَّى لِي أنْ أذْكُرَهُ وَأنَاْ بِحَضْرَةِ عَبْدِ الْكَرِيْم خَلِيْفَة؟! يَاْ لِهَيْبَةِ الإنْسَانِ وَيَاْ لِهَوْلِ الْمَقَاْمِ وَيَاْ لِقِيْمَةِ الْمَكَاْنِ!!! وَيَاْ لِفَدَاْحَةِ "وَرْطَتِي" وَيَاْ لِعِظَمِ سَقْطَتِي وَيَاْ لِقِلَّةِ حِيْلَتِي!!!
فَأنَاْ بِحَضْرَةِ شَيْخِ الْعَرَبِيَّةِ الرَّزِيْنِ، وَدِرْعِهَا الْمَتِيْنِ، وَرُكْنِهَا الرَّكِيْنِ، وَحِصْنِهَا الحَصِيْنِ، وَسَدِّهَا المَكِيْنِ، وَقَلْعَتِهَا الرَّصِيْنِ، وَخَاْدِمِهَا الْقَويِّ وَحَاْرِسِهَا الأمِيْنِ. كَاْنَ ذَلِكَ فِيْ مَجْمَعِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيِّةِ الأرْدُنِيِّ- أدَاْمَ اللهُ ألَقَهُ وَتَألُّقَهُ- الَّذِيْ تَرَبَّعَ عَبْدُ الْكَرِيْمِ عَلَى عَرْشِهِ، بِوَقَاْرٍ وَاقْتِدَاْرٍ عَزَّ نَظِيْرُهُمَا، وَذَلِكَ مُنْذُ تَأسِيْسِهِ قَبْلَ أزْيَدَ مِنْ أرْبَعَةِ عُقُوْدٍ. لَمْ يَكُنْ مُهِمَّاً لَدَيَّ النِّسْيَاْنُ البَتَّة، فَكُلُّ مَاْ كُنْتُ أخْشَاْهُ هُوَ أنْ أرْفَعَ مَفْعُوْلاً بِهِ، أوْ أنْصِبَ فَاْعِلاً، أوْ ألا أصْرِفَ مَمْنُوْعَاً مِنَ الصَّرْفِ (جَرَّاً أوْ تَنْوِيْنَاً)، أوْ أخْفِقَ فِيْ نَزْعِ الخَاْفِضِ... فانْصَرِفَ خَاْسِئاً نَاْدِمَاً أبْكِيْن! كُنْتُ أخْشَى- وَلَعَمْري هَذَا أدْهَى وَأغْضَبُ وأمَرُّ- أنْ أُقْحِمَ ثَانِيَةً، مِنْ حَيْثُ لا أدْرِي وَأنَاْ فِيْ غَفْلَةٍ مِنْ أمْرِي، كَلِمَةً دَخِيْلَةً أوْ عِبَاْرَةً هَجِيْنَةً، فَأخْدِشُ حَيَاءَ المَكَاْنِ وَأُقَلْقِلُ سَكِيْنَةَ الإنْسَاْنِ وأُثِيْرُ حَفِيْظَةَ "الْخَلِيْفَةِ".
عَبْدَ الْكَرِيْمِ خَلِيْفَة... يَاْ حَاْضِنَ الْعَرَبِيَّةِ فِيْ غُرْبَتِهَا... وَمُؤْنِسَهَا فِيْ وَحْشَتِهَا... مُكَاْفِحَاً وَمُدَاْفِعَاً وَمُنَاْفِحَا... عُذْرَاً مِنْكَ مَرَّاتٍ تَتْرَى... وَطُوْبَى لَكَ طُوْبَى...فِيْ زَمَنٍ شَحَّ فِيْهِ الْغَيُوْرُوْنَ عَلَى الْعَرَبِيِّةِ الْبَتُوْلِ. وَألْفُ ألْفُ تَحِيَّةٍ مُفْعَمَةٍ بِخَاْلِصِ الْمَحَبَّةِ وَوَاْفِرِ الاحْتِرَاْمِ وَبَاْلِغِ التَّقْدِيْرِ...
أمَّاْ بَعْدُ...
أمَاْمَ هَذَاْ الْمَقَاْمِ الْجَلَلِ، سَأنْأى عَنِ الْخَوْضِ فِيْ مُسْتَنْقَعِ الإنْهِزَاْمِيَّةِ وأدْرَاْنِ التَّبَعِيِّةِ وَوَحْلِ التَّقْلِيْدِ. أعِدُكُم أنَّنِي لَنْ أُبْحِرَ بِكُم فِي خِضَمِّ الأمْرَكَةِ وَلَوْثَةِ الْعَوْلَمَةِ وَمَعْمَعَةِ التَّغْرِيْبِ. وَلَنْ أُعَكِّرَ صَفْوَ أوْقَاْتِكُم بِمُقْتَضَيَاْتِ العَصْرِ والتَّجْدِيْدِ. أعِدُكُم. سَأطلُّ عَلَيْكُم مِنْ هَذِهِ النَّاْفِذَةِ -عَلَى عَجَلٍ- وَكُلِّي أمَلٌ لِجَرْدِ حِسَاْبٍ، بِالْحُسْنَى وَالتَّحَاْبِّ. سَأُحَدِّثُكُم عَنْ مَشْهَدٍ وَمُشَاْهَدَاْتٍ فِيْهَا عُقُوْقٌ وَحُرُوْقٌ وَآهَاْتٌ، وَصَرْخَةٌ وَصَيْحَةٌ وَأنَّاْتٌ.
عُقُوْقٌ "لَيْسَ كَالْعُقُوْقِ". صَرْخَاْتُ أمٍّ جَرِيْحٍ قَذَفَ بِهَا أبْنَاْؤُهَا فِي أُتُوْنِ الْعِنَةِ والْعُتْهِ وَالتَّصَحُّرِ باسْمِ اللَّحَاْقِ بالرَّكْبِ وَمُوَاكَبَةِ الْمَرْكِبِ وَالتَّحَضُّرِ. وَهِيَ تُنَاْدِيْهم وَتُنَاجِيْهم:"فَلا تَكِلُوْنِي للزَّمَاْنِ فِإنَّنِي... أخَاْفُ عَلَيْكُم أنْ تَحِيْنَ وَفَاْتِي!". سَأُحَدِّثُكُم عَنْ حُرُوْفٍ ضَاْعَتْ وَألْسِنَةٍ تَاْهَتْ وَمَعَاْنٍ بَاْلَتْ. سَأُحَدِّثُكُم عَنْ تَنَكُّرٍ مُؤسِفٍ وَاْضِحٍ، وهُجْراْنٍ مُخْزٍ فَاْضِحٍ.
وَسَأسْألُكُم: لِمَاْذَا لا نَطْرَبُ لِمِزْمَاْرِ حَيِّنَا وَطَبْلِ زَقَّتِنَا وَدَفِّ حَاْرَتِنَا وَقِيْثَاْرَةِ بَيْتِنَا؟! وَلِمَاْذَا لا نَأكُلُ خُبْزَ قَمْحِنَا وَفَاْكِهَةَ جَنَّتِنَا، وَلِمَاْذَا لا نَشْرَبُ حَلِيْبَ نِعَاْجِنَا وَلا نَلبسُ صُوْفَ خِرَاْفِنَا؟! إلَى مَتَى- يَاْ مَعَاْشِرَ الْعَرَبِ- سَنَبْقَى الأمَّة الَّتِي لا تأكُلُ مِمَّا تَزْرَعُ، ولا تَلْبسُ مِمَّا تَصْنَعُ؟!
كَثِيْرةٌ هِيَ الحِكَاْيَاتُ مَرِيْرَةٌ هِيَ الْمُشَاهَدَاْتُ! مَشَاْهِدُ ألَمٍ وَأنِيْنٍ، يَنْدَى لَهَا الْجَبِيْنُ، ونَحْنُ عَنْهَا غَافِلِوْن سَاْهُوْن.
ثُمَّ أمَّاْ بَعْدُ...
رُبَّمَاْ غَلَبَ طَاْبِعُ التَّشَاْؤُمِ عَلَى فَضَاْءِ هَذَا الْمَقَاْلِ. وَلَعَلَّيْ لا أرَاْكُمْ تَجِدُوْنَ فِيْ ذَلِكَ غَرَاْبَةً أوْ عَجَبَاً، نَظَرَاً لِلدَّرْكِ الأسْفَلِ والْحَضِيْضِ الَّذِيْ آلَتْ إلَيْهِ الْعَرَبِيَّةُ بَيْنَ أهْلِهَاْ: عَاْمَّةً وَنُخَبَاً. وَلأنَّ الْمَقَاْلَ بِالْمِثَاْلِ يَتَّضِحُ، سَأنْثُرُ بَيْنَ أيْدِيْكُمْ حفْنَةً مِنَ الْمُشَاْهَدَاْتِ الَّتِيْ أعِيْشُهَاْ- كَمَاْ يَعِيْشُهَاْ كُلُّ وَاْحِدٍ مِنْ حَضَرَاْتِكُمْ، آنَاْءَ الَّليْلِ وأطْرَاْفَ النَّهَاْرِ. وَمَاْ تِلْكُمُ الْمُشَاْهَدَاْتِ الْمُخْجِلَةِ إلا غَيْضٌ مِنْ فَيْضٍ. لِذَاْ، لَنْ أُثْقِلَ كَاْهِلَكُمْ بِالْكَثِيْرِ مِنْهَاْ، فَهَاْكُمْ بَعْضَهَاْ:
الْمَشْهَدُ الأوَّلُ: زَيْدٌ (شَاْكِيَاً ضَجِرَاً): "كُلُّ الْفَايْلاتِ اللِّيْ سَيَّفْتُهُمْ عَلَى كُمْبيُوْتَرِي اتْكَنْسَالُوْا وَلِلأسَفِ انْسِيْت أفَرْوِدْهُمْ لإيْمِيْلِي أوْ أسَيِّفْهُمْ عَلَى افْلاشْ مِيْمُوْرِي...!
يُقَاْطِعُهُ عَمْرو (مُوَاْسِيَاً وَمُطَمْئِنَاً): " إتْس أوْكِيْه... حَتَّى لَوْ اتْكَنْسَاْلُوْا وفَرْمَتِتْ السُّوْفْت ويْر بِظَلُّوْا مَوْجُوْدِيْن فِي الابْ تُوْب... عَلَى الْهَاْرْد"وَ....
بِرَبِّكُمْ... اسْتَحْلِفُكُمْ بِاللهِ -جَلَّ فِيْ عُلاهِ- أيْنَ الضَّاْدُ فِيْ هَذَا الْخِوَاْرِ الْعَاْقِرِ الْعَقِيْمِ، وَالأطْرَمِ الأبْكَمِ، وَالأطْرَشِ الأخْرَسِ، وَالأكْمَهِ الأبْرَصِ؟! وَهَلْ ضَاْقَتْ بِذَلِكَ الْعَرَبِيَّةُ ذَرْعَاً يَاْ أمَّةَ الضَّاْدِ؟! وَهِيَ الَّتِي تَشْدُوْ وَتَقُوْلُ:
وَسِعْتُ كِتَاْبَ اللهِ لَفْظَــاً وَغَاْيـَـــــةً وَمَــاْ ضِقْتُ عَــنْ آيٍ بِـــهِ وِعِظـَـــــاْتِ
فَكَيْفَ أضِيْقُ بِهِ الْيَوْمَ عَنْ وَصْـــفِ آلَةٍ، وَتَنْسِيْقِ أسْــمَاْءٍ لِمُخْتَرَعَـــــــاْتِ؟!
أنَاْ الْبَحْرُ فِيْ أحْشَاْئِهِ الدُّرُّ كَاْمـــــِنٌ فَهَلْ سَألُوْا الْغَوَّاْصَ عَنْ صَدَفَاْتِــــــيْ؟
انْتَهَى الْمَشْهَدُ الأوَّلُ.
الْمَشْهَدُ الثَّاْنِيْ: عَجِبْتُ كُلَّ الْعَجَبِ! الْمُتَكَلِّمُ عَرَبِيٌّ، وَالْمُخَاْطَبُ عَرَبِيٌّ، وَالْمَكَاْنُ عَرَبِيٌّ، وَالْمَوْضُوْعُ عَرَبِيٌّ. كُلُّ شَيْءٍ عَرَبِيٌّ مَاْ خَلا اللُّغَةَ، فَهِيَ غَرِيْبَةٌ غَرْبِيَّةٌ!!! وَفِيْ أحْسَنِ الأحْوَاْلِ (عَرَبِيْزِيَّةٌ!) وَهَلْ يَجْعَلُنَاْ هَذَا "الانْهِزَاْمُ اللُّغَوِيُّ" وَانْفِصَاْمُ الْهَوِيَّةِ مِنْ عَلِيَّةِ الْقَوْمِ؟! ألا نَسْتَحِيْ مِنْ أنْفُسِنَاْ سَيِّدَاْتِيْ وَسَاْدَتِيْ؟! وَهَلْ أضْحَتِ الْعَرَبِيَّةُ أدَاْةً عَاْجِزَةً أوْ عَجُوْزاً، وَهِيَ الْوَدُوْدُ الْوَلُوْدُ؟! وَهِيَ الَّتِيْ تَقُوْلُ:
سَرَتْ لُوْثَةُ الإفْرِنْـجِ فِيْهَاْ كَمَاْ سَــرَى لُعَــاْبُ الأفَاْعِيْ فِيْ مَسِيْلِ فُـرَاْتِ
فَجَاْءَتْ كَثَوْبٍ ضَمَّ سَبْعِــــــيْنَ رُقْعَةً مُشَكَّـــلَةَ الألْـــــــوَاْنِ مُخْتَلِفَـــاْتِ
انْتَهَى الْمَشْهَدُ الثَّاْنِيْ.
الْمَشْهَدُ الثَّاْلِثُ: إذَاْ جَنَحَ أحَدُهُمْ إلِى الْفَصِيْحَةِ، فَيَاْ لِلْفَضِيْحَةِ! وَالْوَيْلُ لَهُ وَالثُّبُوْرُ! وَهَلْ غَدَتِ الْفَصِيْحَةُ "الْمَلِيْحَةُ" وَصْمَةَ عَاْرٍ لا بَصْمَةَ فَخَاْرٍ؟! وَيْحَنَا مَاْ أظْلَمَنَاْ!!! آسْتَحَيْنَاْ مِنْهَاْ وَهِيَ لِسَاْنُنُاْ؟! مَاْذَاْ دَهَاْنَاْ، وَمَاْذَاْ اعْتَرَاْنَاْ يَاْ قَوْم؟! أمَاْ سَمِعْنَاْ الْعَرَبِيَّةَ وَهِيَ تَقُوْلُ:
أرَى لِرِجَــاْلِ الْغَــرْبِ عِــزَّاً وَمَنْـعَةً وَكَـمْ عَـــزَّ أقْـــوَاْمٌ بِـعِـزِّ لُغـاْتِ؟!
انْتَهَى الْمَشْهَدُ الثَّاْلِثُ.
الْمَشْهَدُ الرَّاْبِعُ: فِيْ مَحَاْفِلِنَاْ وَمَنَاْبِرِنَاْ (وَمَاْ أكْثَرَهَاْ!)، نُعِدُّ عُدَّةَ التَّرْجَمَةِ الْفَوْرِيَّةِ وَالتَّتَاْبُعِيَّةِ وَحَتَّى الْهَمْسِيَّة، مِنْ أجْلِ جَاْلِسٍ إفْرَنْجِيٍّ بَيْنَنَاْ أوْ اثْنَيْن أوْ أقَلِّيَّةٍ. والْعَكْسُ خَطَأ وَلَوْ كُنَّاْ أكْثَرِيَّةً!!! مَاْ لَكُمْ "عَلَى أعْقَاْبِكُمْ تَنْكِصُوْنَ". فَوَاللهِ وَبِاللهِ وَتَاللهِ "تِلْكَ إذَنْ قِسْمَةٌ ضِيْزَى". وَأيُّ جُحُوْدٍ وَأيُّ عُقُوْقٍ وَأيُّ نُكْرَاْنٍ هَذَا يَاْ بَنِي الْعَرَبِ؟!!! وَلُغَتُكُمْ تَرْجُو وَتَشْكُو، وَتُحَذِّرُ وَتُنْذِرُ:
إلِى مَعْشَرِ الْكُتَّاْبِ وَالْجَمْعُ حَاْفِــلٌ بَسَطتُّ رَجَاْئِي بَعْدَ بَسْطِ شَكَاْتِـــي
فَإمَّاْ حَيَاْةٌ تَبْعَثُ الْمَيْتَ فِي الْبِـــلَى وَتُنْبِتُ فِيْ تِـلْكَ الرُّمـُـوْسِ رُفَاْتـِي
وإمَّا مَمَــاْتٌ لا قِيَاْمـــَـــــةَ بَعْـــدَهُ مَمَاْتٌ لَعَمْــرِي لَمْ يُقـَـسْ بِمَمَـاْتِ
انْتَهَى الْمَشْهَدُ الرَّاْبِعُ.
أمَّاْ الْمَشْهَدُ الْخَاْمِسُ، فَمُضْحِكٌ وَمُبْكٍ فِيْ آنٍ!
قَبْلَ بِضْعِ سِنِيْن، وَبَيْنَمَاْ كُنْتُ أشَاْهِدُ-عَبَثَاً- بَرْنَاْمَجَ مُسَاْبَقَاْتِ "مَلِكَاْتِ" الجَمَاْلِ عَلَى إحْدَى شَاْشَاْتِ التَّلْفَزَةِ الْعَرَبِيَّةِ، جِيْءَ "بِعَاْرِفٍ" بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ إلَى الْمَكَاْنِ بُغْيَةَ تَدْرِيْبِ الْمُرَشَّحَاْتِ عَلَى مَاْ فَصُحَ مِنْ لِسَاْنِ الضَّاْدِ عَسَى أنْ يَسْتَقِيْمَ اللِّسَاْنُ بَعْدَ أنْ مُيِّعَ وَاعْوَجَّ فِيْ هَذَا الزَّمَنِ الأهْوَجِ. وَلَمَّاْ نَطَقَتْ إحْدَاْهُنَّ بِكَلِمَةِ "سِئَة"، بَدَلاً مِنْ "ثِقَة"،أبْرَقَ ذَاْكَ "الخَبِيْرُ" وأرْعَدَ، وأرْغَى وَأزْبَدَ، وَاكْفَهَرَّ وَجْهُه، وَاقْشَعَرَّ بَدَنُهُ وارْبَدَّ، وَجُنَّ جُنُوْنُهُ وَأقَاْمَ وَأقْعَدَ... وَقَاْلَ: "ثِئَة" مِشْ "سِئَة!!!".. وأرْدَفَ: "يَلا عِيْدِيْ وَرَاْي": "ثِئَة".. "برَاْفُوْا" "أقِيْن".. ""ثِئَة" "أقِيْن".. "ثِئَة" "أقِيْن".. "ثِئَة"، وَمَاْ زَاْلَ يَرُدُّهَاْ، وَمَاْ زَاْلَتْ تُرَدِّدُهَاْ حَتَّى جَفَّ رِيْقُهُمَاْ... وَضَاْعَ الْمِسْكِيْنَاْن كِلاهُمَاْ بَيْنَ "السِّئَةِ وَالثِّئَةِ" وَتَاْهَاْ بَيْنَ الإيْطَاْلِيَّةِ وَالإنْجِلِيْزِيَّةِ وَبَقَاْيَاْ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ!
إذَاْ كَاْنَ هَذَا حَاْلُ النُّخْبَوِيِّ الْخَبِيْرِ، فَمَاْذَاْ تَأمَلُوْنَ مِنَ "الْعَبْدِ الْفَقِيْرِ"؟!
أمُـــوْرٌ يَضْحَـــكُ السُّفَهَـــاْءُ مِنْـــهَاْ وَيَبْكِـــيْ مِـــنْ عَوَاْقِبِهَـــاْ الَّلبِيْبُ!
انْتَهَى الْمَشْهَدُ الْخَاْمِسُ (وَلَيْسَ الأخِيْرُ). فَالْحَدِيْثُ يَطُوْلُ وَلِلْحِكَاْيَةِ بَقِيَّةٌ، تَاْرِكَاً حَضَرَاْتِكُمْ، عَاْمَّةً وَصَفْوَةً، أمَاْمَ تِلْكُمُ الْمَشَاْهِدِ الْمُفْزِعَةِ، والْمَصَاْئِبِ الْمُفْجِعَةِ.
وَلَوْ أسْدِلَ السِّتَاْرُ هُنَاْ إيْذَاْنَاً بِالنِّهَاْيَةِ، فَهَلْ وَصَلَتِ الرِّسَاْلَةُ؟
أرْجُو -أعِزَّاْئِي القُرَّاْء- مِنَ الْمَاْءِ إلَى الْمَاْءِ، أنْ لا أبْدُوَ ضِدَّ اللِّحَاْقِ بِرَكْبِ الأمَمِ وَمَوْكِبِ السِّيْرِ نَحْوَ الْقِمَمِ. فَأنَاْ لا أجِدُ فِيْ ذَلِكَ ضَيْرَاً، وَلا أجِدُنِي أنْظُرُ إلَيْهِ شَزْرَاً. لَكِنَّنَي لا أقْبَلُ-شَأنِي شَأنُكُمْ- أنْ نَنْسَلِخَ عِنِ الْكِيَاْنِ وَالْهَوِيَّةِ، وَنَلْبسَ الْقِشْرَةَ... وَالرُّوْحُ جَاْهِلِيَّةٌ. وَلْنَبْلُغِ السِّمَاْكَ. وَلَكِنْ حَذَاْرِي حَذَاْرِي أنْ نَضِيْعَ بَيْنَ هَذَا وَذَاْكَ!
فَيَاْ مَعَاْشِرَ الْعَرَبِ... يَاْ عَاْمَّة، وَيَاْ سَاْسَة، وَيَاْ نُخَب... الْعَرَبِيَّةُ تُنَاْدِيْكُمْ أنْ بِرِّوْا بِيَاْ، فَهَلا لَبَّيْتُمُ النِّدَاْءَ؟!
نم قرير العين- شيخ العربية الوقور وسادنها الأمين. رحمك الله رحمة واسعه، وأعظم الله أجركم- معشر المثقفين- المفجوعين بهذا الرحيل الأليم. وستظل بطون النساء, إثر رحيلك المرّ، شاغرة؛ فلم تعد زوامرُ زامرِ الحي تُشجينا. أما "حبيبتك" العربية العالية، فباقية: شامخة شماء سامقة... عروساً عُطْمُوسا، عَيْطَمُوسا... عَيْطَبُولا.
chainedfreedom@hotmail.co.uk