مفلح العدوان .. رأس مال الحر استقالته
علي عبيدات
21-08-2020 12:53 AM
أنا لا أكتبُ عن صديق وأخ ورفيق روح اسمه مفلح العدوان، أنا أكتب قصةً بسيطةً عن مبدع أردني صاحب مدرسة أخلاقية وأدبية خاصة تركَ منصبًا يلهث خلفه كثر قبل أيام قليلة وقدمَ استقالته أمام كل الأردن من إدارة المركز الثقافي الملكي.
مفلح العدوان، صحافي وأديب أردني من بلادنا، حين أقولُ من بلادنا أقصدُ أنه الشاب الذي تجولَ في كل قرى وبوادي ومخيمات الأردن ووثقها، أكثر من 300 قرية أردنية طاف بها مفلح وهو يلبسُ بسطاره ومعه أدوات حربه الجمالية، القلم والورقة وأداة التسجيل والكاميرا، لا تتعجب إذا اكتشفت أن مفلح التقى بجدك وأخذ منه سيرة القرية والعائلة.
مفلح الصحافي الفذّ الذي بدأ حياته مهندسًا ثم جرفه الأدب وانخرط في أقسى وأعقد وأصعب وسط في العالم "الوسط الثقافي" وكان مختلفًا.
مفلح ابن جيل نهاية الثمانينات في الأدب، ابن الجيل الذهبي الذي طحنته الدنيا وأصرّ على البقاء والنجاح. قاصٌ يكتب القصة القصيرة منذ ميوعة صبّاه، روائي بخيل جدًا لأنه لا يكتب الروايات، بل يغوص في الملاحم العقلية المعرفية. حين لم ينتبه ويفهم نقد بلادنا قصصه مطلع التسعينيات وقالوا له "قصة صعبة على الناس" فاز في مصر بجائزة أحد آباء القصة القصيرة "جائزة محمود تيمور"، مفلح مسرحي أردني كرمته البلاد كلها وحصد جوائز الاعتزاز بهويته العربية.
حين زار مفلح فلسطين مثل أي زائر، أصر أن يكتب كتابًا عن الزيارة وتقمص شخصية الفينيق، حتى أنه ذكرني في مقدمة الكتاب من فرط ما كنا نتحدث عنه ويحدثني عن تقديسه لتراب فلسطيننا، كذلك حين زار الجزائر وكتب كتابًا هائلًا فيها. لأكون صريحًا وكما تعرفون؛ إن الوسط الثقافي في كل بقاع الدنيا قائم على الشلّة، وفي الأردن نستثني مفلح دائمًا، مفلح إنسانٌ جماليٌّ مهمته تقريب الناس ولم الشمل وله حصته في قلوب الجميع. ببساطة، لأنه إنسان، والأخطر، لأنه مبدعٌ حقيقي يعرفه قراء الرأي في زاويته التي ينقش عليها سيرة البلاد وأهلها، ويعرفه قراؤه الذين قرأوا أكثر من عشرين مؤلفًا لمفلح.
لا أستطيع إحصاء الجوائز التي حصدها مفلح العدوان، هو أصلًا لا يهتم بعددها لكنه فخور حين يمثل بلده ويقول مقدمو الندوات "ومن الأردن الكاتب مفلح العدوان". أنا شاهدُ عيِان على مفلح، وحين التقيته أول مرة خاطبته بـ "أستاذي" فلم يعجبه وقال لي "اسمي مفلح يا رمثاوي". هذا المفلح الذي رفضَ فرصًا مدللةً تعطي الأديب العربي بريقه وتغدق عليه النعمة، لا لشيء إلّا أنه يريدُ العمل الحقيقي، ولا يحبُ الوجاهة. هل تعلم أن مفلح العدوان رفضَ عملًا في زمنٍ ما لأنهم طلبوا منه قصَّ شعره، ربما لا يكون الشعر هو الغاية فقد قصَّه من خاطره بعدها، لكن حرًا مثله يرفض أن يكون موظفًا تابعًا يعدُ ساعات العمل ويغادر.
ماذا يريدُ الكاتب من بلده! أشياء كثيرة طبعًا، أولها التقدير، ومفلح مُقدرٌ من عقربا حتى العقبة. مفلح لا يريدُ شيئًا من بلده بقدر ما يريدُ للبلد أشياءً كثيرة، أهمها أن يكون الكاتب كاتبًا وأن تكون المؤسسات الثقافية جادّة كما حاول ونجح في إحياء قلعة ثقافية أردنية مهمة احتضنت عمالقة الأدب العربي والعالمي ثم بهتَ نجمها بسبب هشاشة وزارة الثقافة الأردنية، استلم مفلح إدارة المركز الأصم الأبكم، وفي اليوم الثاني من الإدارة حولَ مكتبه الفخم إلى صالون ثقافي دعا إليه عشرات المثقفين لإيجاد حلول حقيقية للأزمة الكارثية التي تمرُ بها الثقافة الأردنية.
لأننا في مؤسسات تعشق الروتين، لأننا في مؤسسات تتساوى فيها دائرة الأحوال المدنية بالمراكز الصحية بالمراكز الثقافية، هجَ مفلح من المركز بعد أن قيدّت سلطاته، وأصبح له ألف مرجعٍ يرجع له إذا قرر أن ينظم أي شيء حقيقي على أرض الواقع دون إنشاء مزيف واجتماعات ودراسات كرتونية تفضي إلى العبث. كلُّ مديري المركز السابقين كانوا أحرارًا في بلاهة وتمييع دور المركز إلا مفلح، عندما قرر أن يعمل، قرر الوزير الفولاذي باسم الطويسي أن يركنَ الرجلَ على الرّف، والتهمة "أنه يعمل".
أعلم أن الأردن تمرُّ بمشاكلٍ هائلة، لكن صدقوني إذا ماتت الثقافة (كما يحدث اليوم) سيتضاعف حمل المشاكل، وإذا ظل الوزراء فولاذيون إقصائيون حُسادًا ستغدو مؤسساتنا خاوية. السلام عليك يا مفلح السلام عليك أيها الفارس الشهم الرجل النقي الذي لم يترك له عدوًا واحدًا في البلاد، السلام على الرجل الذي تعلمت منه كيف أكون محبًا للآخرين فقد كنتُ مثل وزرائنا في همجية الذكاء العاطفي وأذكر قبل سبع سنوات أنك قلت لي: "شذب أغصان قلبك أيها العباسي".