المحدد الرئيسي لطبيعة العلاقات الخارجية لروسيا
د. امين محمود
20-08-2020 03:56 PM
يعد الوضع الجغرافي للشرق الأوسط الممتد عبر العالم العربي واجزاء واسعة من أفريقيا واسية وأوروبا الشرقية ، المحدد الرىيسي لطبيعة العلاقات التاريخية التي نشأت وتطورت بين روسيا وهذا الجزء من العالم منذ عهد القياصرة الروس.
وقد بدا الاهتمام الروسي بهذه المنطقة منذ اواخر عهد بطرس الأكبر ( ١٦٨٢-١٧٢٥) حيث اجتاحت الجيوش الروسية عام ١٧٢٣ بلاد فارس وباتت تهدد العراق ومنطقة الخليج. كما انطلقت الأساطيل الروسية مندفعة نحو القسطنطينية والهند غير ان خلفاء بطرس الأكبر من القياصرة الروس وخوفا من الدخول في نزاع مكشوف مع القوى الغربية اثروا التريث في اندفاعهم التوسعي واستبدلوه بسياسة التحالفات * والاتفاقات الصامتة * كما حدث بينهم وبين كل من النمسا وبريطانيا. ويلاحظ لدى استعراض مسار السياسة الخارجية لروسيا منذ عهود القياصرة ان هنالك عدة عوامل كانت تتحكم في مسار هذه السياسة وأهمها فيما يتعلق بهذا الجزء من العالم العوامل التالية:
١- العامل الجيوبوليتيكي:
والمقصود بهذا العامل هو السعي الروسي المستمر للسيطرة على ما يسمى * بالمياه الدفينة * بهدف ايجاد منافذ بحرية لها تصلح للملاحة وتسهل لروسيا مهمة الاتصال بمختلف ارجاء العالم، ومن اجل تامين هذه المنافذ كان لا بد منالتحكم بها وإخضاعها لسيطرتها المباشرة. وتشمل هذه المناطق الأراضي الواقعة على بحر البلطيق والبحر الأسود وبحر قزوين والبحر الأبيض المتوسط وصولا الى الخليج العربي . وقد أدت هذه المحاولات التوسعية الى خوض روسيا غمار حروب متلاحقة مع الدول المجاورة لهذه المناطق أو تلك الدول التيكان لها مصالح حيوية فيها ( Michael Florinsky , Russia : A History of Interpretation , Vol II , p . 826 ) .
٢- العامل * السلافي * ؛
وهو محاولة روسيا التوسع ومد نفوذها على جميع الشعوب السلافية بدعوى انتماء الجزء الأكبر من مواطنيها الى تلك الشعوب التي كانت تشكل المكون الرىيسي لمواطني الجانب الأوروبي من روسيا اضافة الى شعوب البلقان وبولندا. وقد بررت روسيا هذه المحاولة برغبتها في توحيد الشعوب السلافية لإقامة سد منيع يوفر الحماية للحضارة الأوروبية من أي خطر يهددها من الشرق ، وبالطبع المقصود هنا المسلمون سواء كانوا عثمانيين أم عربًا ( M. B. Petrovich , The Emergence of Rassian Panslavism , p. 212 ) .
٣- نظرية روما الثالثة : ( مستخلصة من أوراق غير منشورة لCyril Toumanov الذي عمل أستاذًا لفترة طويلة في جامعة جورجتاون بواشنطنوكان ينتمي لفرسان القديس يوحنا ) .
وهذه النظرية لها بعدها التاريخي وعمقها العقائدي في التاريخ الروسي. ولتوضيح هذه النظرية لا بد من العودة الى عام ١٠٥٤ حينما انقسمت الكنيسة المسيحية الى كنيستين: شرقية وغربية ( ارثوذكسية وكاثوليكية ). واصبح الروس منذ ذلك الوقت تابعين للكنيسة الأرثوذكسية الشرقية واتخذوا من القسطنطينية مركزا لها. واعتبرت في نظر اتباعها وريثة لروما الأولى وبديلالها واطلق ليها لقب روما الثانية. ولدى سقوط القسطنطينية على يد العثمانيين عام ١٤٥٣ كان لا بد للروس من ايجاد مركز جديد بديل للكنيسة الأرثوذكسية فكان اختيار الروس لموسكو كي تصبح هي ذلك المركز البديل واطلقوا عليها لقبروما الثالثة. وقد ازدهرت هذه النظرية وتعمقت في وجدان الشعب الروسي منذ أيام بطرس الأكبر. ونودي بموسكو لتصبح في نظر الروس مركزا للمسيحية في العالم ومقرا مرجعيا لها. ولعل في تأصيل هذا المعتقد لدى الإنسان الروسي بمركزية موسكو للعالم المسيحي كان وراء تيسير عملية التكيف لدى هذا الإنسان للمناداة بموسكو من جديد في عهد البلاشفة لتصبح مركزا للشيوعية العالمية. وكان لهذا المعتقد انعكاساته على علاقات روسيا مع العديد من دول العالم. وقد استغلت روسيا هذه النظرية زمن العثمانيين لتبرير مطالبة الروس المستمرة بحق حماية المسيحيين الأرثوذكس في العالم بشكل عام ومنطقةالشرق الأدنى بشكل خاص ( بقي تعبير الشرق الأدنى متداولًا حتى بداية الحرب العالمية الثانية حينما استبدل بعدها بتعبير الشرق الأوسط ). وقد تمكنت روسيا في عهد كاترين الثانية من انتزاع هذا الحق من العثمانيين بمقتضى معاهدة كحق قينارجة عام ١٧٧٤ ، وكان من ضمن بنود هذه الاتفاقية أيضا حصول روسيا على بعض المناطق المطلة على البحر الأسود مثل أزوفوشبه جزيرة القرم. وقد ضمنت روسيا لنفسها بذلك الحق في ممارسة الملاحة البحرية في البحر الأسود ومضيفي الدردنيل والبسفور.
وهكذا فاننا نرى في نظرية روما الثالثة التي استمدتها روسيا من رصيدها التاريخي والعقائدي في عهديها القيصري والبلشفي وذلك لتبرير واحد مناهم دوافع سياستها الخارجية التوسعية .
وإذا ما دققنا النظر في طبيعة السياسة الخارجية الروسية وخاصة في العهد السوفييتي نجدها تتسم منذ البداية بالغموض والحذر الشديد . ويبدو انها كانت تستمد الكثير من ذلك من بقايا روحها القومية المحافظة التي كانت تتبناها الأوساط الحاكمة في روسيا خلال العهد القيصري ( E. C. Thanden , Conservative Nationalism in 19th Century Russia , p. 161 ) غير ان تنامي الروح القومية بمفهومها البورجوازي الغربي بين النخب الروسية اصبح يشكل احدى القوى المحركة التي دفعت روسيا الى انتهاج سياسة توسعية نشطة في المناطق المجاورة لها ، كما شجعها هذا الاندفاع القومي الى البدء في بناء قوة روسية ذاتية على غرار القوى الأوروبية الكبرى لا سيما فيمجال النقل والتصنيع العسكري. أما الصفة المحافظة فكانت تعني صون البناء الأوتوقراطي للنظام الروسي، وبتعبير اخر المحافظة على وحدة الشعب الروسي وضمان ولائه التام لحكم القيصر المطلق . وكانت الإصلاحات التحديثية في النظام الروسي منحصرة في بعض الانفتاح الاقتصادي على الدول الغربية الكبرى الى الحد الذي كانت تقتضيه مصلحة النظام بحيث لا يحمل في طياته أي بذور في مجال الإصلاح السياسي الحقيقي .
ومن الملاحظ - كما ذكرنا في دردشة سابقة - ان الاتحاد السوفييتي بدا فور استقرار أوضاعه الداخلية يعمل جاهدا على تامين مستقر له على بعض المنافذ البحرية المجاورة وذلك بمد نفوذه والسيطرة على المناطق المحاذية لتلك المنافذ البحرية لا سيما ان غالبيتها كانت في حالة ضعف وإنهاك شديدين ، الا ان الاتحاد السوفييتي لم يتسرع في اللجوء الى العمل المسلح من اجل تحقيق طموحاته التوسعية خوفًا من مغبة التورط في حروب مع الدول الكبرى التي كانلها مصالح استعمارية في هذه المناطق . وراى ان من الأفضل التركيز على التغلغل الاقتصادي التدريجي بأسلوب يتسم بالحرص والحذر انتظارًا لمجيء الفرصة المناسبة التي يتم فيها التوصل الى اتفاق مع الدول الكبرى المنافسة، ليتسنى له تحويل هذا النفوذ الاقتصادي في تلك المناطق الى نفوذ وهيمنة سياسية . وكان السوفييت مند البداية يبدون اهتمامًا في الشرق الأدنى حيث أقاموا علاقات دبلوماسية مبكرة مع كل من القاهرة والرياض وبغداد وبيروت ،وأخذوا ينشطون سياسيًا في المشرق العربي . ويلاحظ ان السوفييت كانوا يتواصلون بشكل خاص مع الأقليات الدينية والقومية التي كانت تكثر في هذه المنطقة لانه كان من السهل عليهم استقطابها واحتواوها ، اضافة الى انالبعض منها كان يتطلع نحو الاتحاد السوفييتي كحام لها ومدافع عنها ،فالأرمن - على سبيل المثال - سمح لهم السوفييت بالعودة الى وطنهم في ارمينيا التي كانت خاضعة للحكم السوفييتي كما ان العديد من القيادات المسيحية الأرثوذكسية في العالم العربي أخذت تدعو العرب الى التوجه نحوالاتحاد السوفييتي طلبا للمساعدة والحماية من اطماع الدول الغربية .
وقد ادى اندلاع الحرب العالمية الثانية الى خلق حالة عارمة من الفوضى والاضطراب في شتى ارجاء العالم . وأخذ الخطر النازي يشكل تهديدًا خطيرًا لا للاتحاد السوفييتي فقط وإنما تعدى ذلك ليشكل تهديدًا مباشرًا للنفوذ البريطاني والغربي في منطقة الشرق وباقي مناطق النزاع في العالم . الا انه سرعان ما تغير موقف بريطانيا وباقي الدول الغربية ، فوجدت انه لا بد له المواجهة الخطر النازي للتحالف مع العديد من القوى التي سبق وكانت في حالة عداء معها وفي مقدمتها بالطبع الاتحاد السوفييتي . ومما ادى الى اسراع بريطانيا بتسوية خلافاتها مع الاتحاد السوفييتي والتحالف معه لمواجهة التغلغل الألماني في الشرق تسرب الأنباء حول التخطيط الألماني لإعادة احياء مشروع خط سكة حديد بغداد وإمكانية إنشاء فروع لها في الخليج وايران ،مما بات يشكل تهديدًا ألمانيا مباشرا للمصالح البريطانية والروسية في المنطقةعلى حد سواء ( B. H. Sumner, Tsardom and Imperialism in the Far East and the Middle East , p. 172 ) .
ومن اللافت للنظر ان نرى بريطانيا والدول الغربية لا تجد غضاضة في التحالف مع الاتحاد السوفييتي علما انها سبق ووجهت اليه مرارًا وتكرارًا اشد أنواع النقد والتجريح بحجة انتهاكه لابسط حقوق الإنسان الطبيعية . وهذا خير دليل على ان حديث الدول الكبرى من حرية الإنسان وحقوقه الطبيعية من جانب الدول الكبرى ما هو الا ستار يحجب وراءه حقيقة الأطماع والنوايا الحقيقية لهذه الدول التي تهدف الى استغلال الشعوب وتقييد حريتها واستعمار أوطانها . كانت بريطانيا وغيرها من الدول الغربية تشكو باستمرار من تعسف الأسلوب الروسي في تعامله مع الشعوب الخاضعة لروسيا ، غير ان هذه الدولسرعان ما تخلت عن شكواها حينما احست ان مصالحها باتت مهددة ، وأنهاصبح من الضروري الوقوف الى جانب الاتحاد السوفييتي والتحالف معهلمواجهة التحديات النازية وأخطارها .