القطاع الصناعي .. طموحات وتحديات
د. محمد أبو حمور
18-08-2020 12:29 AM
عندما تواجه الدول والمجتمعات ظروفاً استثنائية تبرز نقاط قوتها التي تتيح لها مواجهة الصعاب وتحويلها الى فرص، تماماً كما تبرز قدرة القيادات على تحديد المفاصل الاستراتيجة التي تتيح الحفاظ على الاستقرار وتعزز مسيرة النهضة والطموح، في هذا السياق نتفهم التوجيهات الملكية السامية بضرورة العمل على دعم وتعزيز القطاعات الانتاجية وعلى رأسها القطاع الصناعي، وقد راينا كيف أن جلالة الملك عبدالله الثاني حفظه الله لم يكتف بتوجيه الحكومة لدعم القطاع الصناعي بل بادر شخصياً لتأكيد وترسيخ هذا التوجه عبر زيارة بعض المنشات الصناعية التي أثبتت قدرتها على الابداع والابتكار ومواصلة العمل في أصعب الظروف، كما كان لها دور بارز ليس فقط في تلبية احتياجات المملكة الصحية والغذائية بل ساهمت أيضاً في تعزيز الصادرات الوطنية للدول الشقيقة والصديقة.
ولا شك بان هذه المعطيات تفرض مسؤوليات جسيمة على عاتق القطاعين العام والخاص ليقوما بالعمل معاً على تنفيذ التوجيهات الملكية وصولاً الى الارتقاء بهذا القطاع ورفع سويته بما يضمن تحقيق الانجازات وتلبية الطموحات والامال المعقودة عليه، ومن المفهوم أن الحكومة عندما تضع نصب عينها بناء دولة الانتاج فهي تحمل النوايا الطيبة والرغبة الصادقة في تحقيق هذا الهدف، ونأمل أن يتم ترجمة النوايا والرغبات الى اجراءات وسياسات محددة وواضحة تتيح تحقيق الطموحات وتلبية الرغبات والاحتياجات.
القطاع الصناعي هو أحد القطاعات الهامة ويشكل ركيزة أساسية للاقتصاد الوطني ومساهماً فاعلاً في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية ومولداً لفرص العمل وفي توليد القيمة المضافة للاقتصاد الوطني، وتقدر غرفة صناعة الاردن أن مساهمة هذا القطاع – المباشرة وغير المباشرة- بمختلف مكوناته في الناتج المحلي الاجمالي قد تصل الى حوالي 40% وذلك عبر مساهمته في تشغيل وتنشيط قطاعات اقتصادية اخرى، كما أنه يوظف حوالي ربع مليون عامل، اي ما نسبته 21% من حجم القوى العاملة في المملكة، ويستحوذ على 65% من الاستثمارات المتدفقة للملكة، وتشير الغرفة أيضاً الى ان القطاع الصناعي يشكل رافداً مهماً من العملات الاجنبية، كما أن صادرات هذا القطاع تشكل حوالي 90% من الصادرات الوطنية.
وكانت الصادرات الاردنية قد نمت بأكثر من 8% خلال العام الماضي مقارنة بالعام الذي سبقه، واستطاعت المنتجات الوطنية الوصول الى مئة وأربعين دولة. وهناك جهات رسمية اخرى تقدر أن حجم القطاع الصناعي يشكل 25% من حجم الاقتصاد حيث يضم نحو 17 الف منشأة.
وتبين احدى الدراسات التحليلية التي أصدرتها دائرة الاحصاءات العامة قبل حوالي عام حول واقع القطاع الصناعي خلال الفترة 2012-2016 الى أن نسبة المنشأت العاملة في قطاع الصناعة تزيد عن 14% من اجمالي مجموع المنشأت العاملة في المملكة، كما أن مساهمة قطاع الصناعة في توليد القيمة المضافة تزيد عن 22% من اجمالي القيمة المضافة لكل القطاعات، وتشير دراسة اخرى نشرتها المؤسسة الاردنية لتطوير المشاريع (جيدكو)/ مرصد المشاريع الصغيرة والمتوسطة في شهر شباط من هذا العام الى أن الرقم القياسي لكميات الانتاج الصناعي انخفض من 100% عام 2015 الى نحو 87% عام 2019، سنة الاساس 2010، وأرتفعت الفجوة بين الرقم القياسي لأسعار المنتجين الصناعيين وكميات الانتاج من 10.9 نقطة مئوية عام 2016 الى 32.8 نقطة مئوية عام 2019، ومن الواضح أن هناك فرص للتوسع أمام القطاع الصناعي بالرغم من وجود عوامل تعيق ذلك.
لا أحد يمكنه أن يتجاهل ضرورة توفير الظروف الملائمة لنمو وازدهار مختلف القطاعات الانتاجية وحتى الخدمية فالاقتصاد في النهاية كل مترابط ويحتاج الى جهود متكاملة تراعي التاثيرات المتبادلة وتستوعب التداخلات القطاعية المختلفة، لذلك فان أول متطلبات النهوض بالقطاع الصناعي هي توفير بيئة محفزة للاستثمارات المحلية وجاذبة للاستثمارات الخارجية، بما في ذلك الاهتمام بتوفير بنية تحتية ملائمة وتحسين مناخ ممارسة الاعمال والارتقاء بالخدمات التي يقدمها القطاع العام وغيرها من المتطلبات ذات العلاقة.
وأذا تناولنا القطاع الصناعي بالتحديد فنحن أمام مهمة تبدأ برجال الاعمال وقدرتهم على أختيار استثمارات نوعية وتوفير منتجات ذات جودة عالية وقدرة على المنافسة مع ما يستدعيه ذلك من الاهتمام بالبحث والتطوير وتعزيز الابتكار وتطوير المنتجات السلعية والتكنولوجية خاصة اذا اخذنا في اعتبارنا ان السوق المحلي صغير الحجم وبالتالي لا بد من التفكير دوماً بالاستفادة من الاسواق الخارجية التي أتاحت الاتفاقيات المختلفة التي وقعتها المملكة فرصة الولوج لها.
ولكن السؤال الذي يطرح هنا: هل يستطيع الصناعيون لوحدهم أن يقوموا بذلك اذا لم تتوفر لهم الظروف والمتطلبات اللازمة التشريعية منها والمؤسسية والاجرائية، وما هو دور القطاع العام والحكومة بأجهزتها المختلفة، ومن الواضح أن التعاون الفعال والبناء المستند الى الثقة المتبادلة والفهم المشترك للظروف والحيثيات المختلفة هو السبيل لتحقيق طموحات الدولة في التنمية والازدهار والتقدم المستدام، والقطاع الصناعي يواجه اليوم العديد من التحديات الداخلية والخارجية منها ما هو مستجد بفعل أزمة الوباء ومنها ما هو متراكم نتجة لمجموعة من السياسات والاجراءات التي تم اتخاذها من جانب الحكومة في أوقات سابقة.
وقد أثبتت الصناعات الوطنية خلال الازمة الراهنة قدرتها على توفير احتياجات السوق المحلي وتجاوز ذلك الى التصدير بالرغم من كل ما أصاب سلاسل التوريد والانتاج من ضرر نتيجة لسياسات الاغلاق والتباعد الاجتماعي والصراع بين القوى الاقتصادية الكبرى، حيث أصبح واضحاً أن بعضها أخذ يتراجع شيئاً فشيئاً عن سياسات السوق المفتوح وحرية التجارة خاصة عندما يتعلق الامر بقطاعات استراتيجية أو تكنولوجية.
نحن اليوم بحاجة الى سياسة تؤطر القطاع الصناعي وترسم له خارطة طريق ليستطيع أن يواصل انجازاته وأن يتغلب على التحديات التي يواجهها من خلال ترجمة احتياجات الصناعة الوطنية وتحديد سبل التطور والتقدم في هذا المجال، ووفقاً للعديد من الاراء تواجه الصناعة الوطنية تحديات تتعلق بكلفة الانتاج بما في ذلك كلفة الطاقة (الكهرباء والمحروقات) والضرائب التي تفرض أحياناً على المواد الاولية ومدخلات الانتاج، وضريبة المبيعات التي تضعف القدرة الشرائية للمواطن، وكلفة النقل ونقص الكوادر المهنية والكفاءات التي تتطلبها بعض القطاعات.
كما أن هناك مصاعب تتعلق بالحصول على التمويل وكلفته المرتفعه في كثير من الاحيان، يضاف لذلك ما تواجهه الصادرات من صعوبات سواءً ما يتعلق منها بالقدرة على المنافسة أو العوائق الفنية والاجرائية التي تفرضها بعض الدول، والاخيرة تستدعي من الحكومة ان تقوم بتفعيل سياسة التعامل بالمثل، خاصة وان هناك الكثير من هذه الممارسات التي يعلمها القاصي والداني، كما أنه من غير المنصف أن نطالب الصناعات المحلية بمنافسة صناعات من بعض الدول التي تقوم بدعم منتجاتها بشكل مباشر او غير مباشر من خلال الكلفة المنخفضة للطاقة والتي تعتبر بالنسبة لبعض القطاعات من أهم مدخلات الانتاج، ونحن في الاردن ومن باب التزامنا بالاتفاقيات التي نرتبط بها مع مختلف دول العالم لا نستطيع أن نقدم دعماً مباشراً للصادرات ولكننا يمكن ان نعمل على تخفيض كلفة المنتج الاردني وأن نوفر المتطلبات التي تكفل الارتقاء بجودته عبر تعزيز التدريب والتأهيل للفنيين والعاملين في هذه المجالات أضافة الى دعم البحث والتطوير المتاح بشكل مباشر أو غير مباشر عبر تعزيز وتفعيل التعاون بين المؤسسات الصناعية ومراكز الابحاث والمؤسسات الاكاديمية، فمواكبة الصناعة للتكنولوجيا أمر في غاية الاهمية ويمكن ان يحدد مسارات التطور المستقبلي.
ومن باب الانصاف لا بد ان نذكر قيام الحكومة بالغاء الضرائب على العديد من المواد الاولية ومدخلات الانتاج، وبعض الاجراءات الهادفة الى تخفيض كلفة الطاقة، وكذلك تحسين اجراءات رد الرسوم والضرائب، والعمل على تسديد جزء من المتأخرات المستحقة لبعض القطاعات، ومنح المنتج الوطني أولوية لدى طرح العطاءات وغيرها من الخطوات والاجراءات الايجابية التي تصب بالاتجاه الصحيح، الا أن الحاجة ما زالت قائمة لمزيد من العمل في هذا الاطار وبحيث تحمل هذه الخطوات صفة الديمومة والمؤسسية الديناميكية القادرة على التصدي للمعيقات ومواجهة ما قد يستجد منها وتشجع على تحفيز وجذب الاستثمارات وتؤمن تمويلاً معتدل الكلفة للمشاريع الجديدة ولتوسعة المشاريع القائمة.
هناك ضرورة لبذل مزيد من العناية بالقطاع الصناعي وتعزيز دوره في الاقتصاد الوطني فنحن اليوم أحوج ما نكون الى القطاعات التي تولد فرص العمل وتساهم في رفع نسبة النمو الاقتصادي وزيادة الصادرات الوطنية وتوفير كل ماهو ممكن لتمكين المنتج الاردني من المنافسة محلياً وعالمياً واذا كان دور الحكومة والصناعيين هو الاساس في ميدان الصادرات والاسواق الخارجية فالمواطن هو الاساس فيما يتعلق بالسوق المحلي، ولا بد أن يدرك المواطنون بان استهلاك المنتج الاردني هو السبيل لنهضة الاقتصاد وتمتين التكاتف المجتمعي الذي يحقق مصلحة الوطن والمواطن، وقد اتضح ذلك بجلاء خلال الازمة والاغلاقات التي شهدناها في الربع الثاني من هذا العام حيث شكلت المنتجات الوطنية شبكة تزويد وتوريد امنة وموثوقة لبت احتياجات المواطنين وزودتهم بما يحتاجونه من منتجات وساعدتهم في التغلب على الظروف الصعبة.
الدعوة للنهوض بالصناعة الوطنية وتوفير كل ما يمكن لتطويرها وتحفيزها لا تنفصل عن الدعوة لتحفيز الاقتصاد الوطني ولا عن تحسين ظروف معيشة المواطنين فالاولى هي الطريق لما بعدها لذلك يصبح لزاماً تكثيف التنسيق مع الجهات ذات العلاقة في القطاع الصناعي للتوصل الى تفاهمات محددة وجراءات واضحة تكفل ازالة العقبات وفتح المجال امام هذا القطاع ليقوم بدوره الريادي في التنمية الاقتصادية والاجتماعية وذلك لنستطيع القول اننا نتقدم بخطوات جادة وحقيقية نحو دولة الانتاج ونسير قدماً نحو الاعتماد على الذات.
الرأي