بعيداً عن السياسة .. قريباً منها
محمد خروب
16-08-2020 12:43 PM
استحوذ كتاب الدكتور زهير أبو فارس، المثقّف والنقابي والنطاسي البارع بل والأكاديمي في سن مبكرة, الموسوم «نقوش على جدران الذاكرة»، على جزء من وقتي بعد انتهائي من قراءة عميقة ومفيدة لهذا البوح الشخصي, الذي سجّله بعدسة ابن القرية المفتقد (كما قريته دير استيا) الى كثير من اسباب الحياة, ليس فقط نتيجة عزلة جغرافية بل وايضا اجتماعية وحضرية واخرى لها علاقة بما كان يحدث في فلسطين ذلك الوقت, ناهيك عما اعترى تلك العلاقة بين القرية والمدينة من التباسات وحذَر محمول على نظرة «شِبه» طبقيّة لم تكن على تلك الدرجة من الحدّة ?لى النحو الذي يمكن ان يأخذ بُعداُ ايديولوجيا, وربما اعترى تلك العلاقة بعض ارتياب ناتج عن انعدام القدرة المادية, واقتصار اقتصاد القرى الفلسطينية كما معظم الارياف العربية على ما تنتجه الارض وما تجود به الطبيعة, اضافة الى ما يبذله ابناء تلك القرى من جهود مضنية لتوفير مقومات الحياة كتربية الاغنام والابقار كما الدجاج ومنتجات الحليب من البان واجبان, فضلاً عن «الإبداع» في تحويل تلك المنتجات الى مخزون شتوي بطرق تعيد الى الاذهان قدرة الانسان في «التحايل» على الطبيعة باساليب وطرائق مبتكرة نسبياً, إذا ما وقفنا على اح?ال تلك الايام وقسوة ظروفها.
نقوش على جدران الذاكرة الذي جاء عنوانا «ثانياً» ومُوفقاً لعنوان اختاره د.ابو فارس في البداية وهو «نقوش على جدران حذائي» في اشارة لا تخلو من دلالة بان «حذاء» هذا «المشّاء» ابن قرية دير استيا كان الشاهد الوحيد ربما على معاناته, وكيف تحمّل صاحبه (كما كل أقرانه في كل قرية) مصاعب الحياة منذ نعومة أظفاره, الى درجة ان استبدال الحذاء المهترئ هذا كان شبه مستحيل ما استدعى اجراء عمليات ترقيع لا تنتهي الى ان بات غير قادر على الرتق بعد اتساع الفتق, ما تطلّب شراء «شاروخ» الذي هو كاوتشوك من عجلات المركبات يتم تنحيفه ودقّ? بالمسامير لتجميعه على شكل حذاء يُنتعَل واحسب ان جيل د.زهير كما اجيالنا نحن ابناء اللاجئين في المخيمات, عرفناه وخبِرناه وسلخَ من ارجلنا ما سلخ.
لست في صدد الترويج لسيرة ذاتية كتبت كما قال صديقي الاديب الاستاذ مصطفى صالح بـِ«نَفَسٍ» روائي, بقدر حرصي التنويه بأهمية الفكرة التي وقفت خلف الجهد الذي بذله د.ابو فارس لتوثيق تجربته الشخصية, بدءاً من طفولته وانتهاء بخروجه من مجتمع مُغلق (قريته) الى فضاء عالمي تمثل في حصوله على بعثة لدراسة الطب (الذي لم يكن يرغبه في البداية, نتيجة الحيرة التي تلفّ خريج الثانوية العامة المتفوق كحال صديقنا) وكيف تأخذنا سرديته الآسرة الى فضاءات الثقافة والفنون والعمل النقابي المُسيّس والتعمق في وصف الحياة في الاتحاد السوفياتي ?لسابق على المستويات الاكاديمية والاجتماعية والثقافية والسياسية وتحليله العميق لمعنى الصداقة والحوار والتقارب الذي تنتجه حياة المجتمعات الاشتراكية في ذلك الوقت.
لا أملك سوى الدعوة الى قراءة سيرة ذاتية حافلة, لابن قرية متواضعة وعائلة مُكافحة استطاع بجهود شخصية وعقلية ديناميكية احترفت التحدّي وعملت بدأب على بلورة مفهوم خاص, ما يزال يحكم مسار ومسيرة صاحبنا الذي أصدر كتاباً آخر قبل خمس سنوات (2015) تحت عنوان «كوابيس سياسية».
kharroub@jpf.com.jo
الرأي