الأوبئة والطاعون والكوليرا في الروايات الأدبية .. من سيكتب حكاية كورونا؟
د. دانييلا القرعان
14-08-2020 12:50 AM
لزمن طويل وقبل إنتشار وتفشي وباء كورونا العالمي المستجد، كان موضوع الوباء تقليداً أدبياً مبثوثاً في الروايات الأدبية والتاريخ الأدبي، وأبدع الكثير من الشعراء والكتّاب والروائيين في كتابة وتأليف وتناول قصصاً إنسانية كانت تتمحور ما بين الألفة والفراق وتتحدث القصص الإنسانية في ذات الوقت في ظل وجود وباء معين مشاعر من فقد حبيبته بالوباء وأقاربه وأصدقائه وكذلك المحاصرين في ظل الحجر المنزلي أو الخائفين من العدوى أو الفارين من الموت.
الأدب تناول الكثير من الموضوعات المتنوعة ولأنها لم تخلّ مما لا نحب، ومن الملاحظ أن الكثير من الروايات والقصص والقصائد خرجت من رحم المعاناة الإنسانية في ظل وجود أوبئة في دولة معينة قديماً، ولنضرب مثالاً يؤكد ما تحدثنا به، من أشهر القصائد التي كان الوباء عنوانها وموضوعها قصيدة "الكوليرا" للشاعرة العراقية الراحلة نازك الملائكة، وهذه الشاعرة الراحلة قد نالت شهرة واسعة بسبب عمل فني تحدث عن وباء الكوليرا ورأت الراحلة نازك أن هي من اخترعت الشعر الحر مما جعل شهرة هذه القصيدة تفوق قصيدة الشاعر المصري علي الجارم عندما كتب رواية عن الكوليرا حيث ضربت الكوليرا مسقط رأسه في مدينة رشيد في مصر عام 1895.
كذلك ومن الكتّاب الروائيين الذي تناول موضوع الأوبئة والكوليرا والطاعون، كتب الصحفي والشاعر الانجليزي "أوديارد كبلنج" قصيدة له بعنوان "معسكر الكوليرا" بعد عام من إنتشار الكوليرا في بلده.
"ألم الذات وألم الآخر"، المبدع في وصف الأوبئة بكافة أنواعها في قصائده الشعرية والنثرية والروايات والكتابات يمتلك ميزة وهي قدرته على التعبير وأن يقول ما يشعر به الآخرون ولا يقدرون على وصفه، وتجربة الألم حرّكت أقلام المبدعين، وتبقى تجربة الألم وكتاباته تجربة استثنائية،وكان لألم المرض جرّاء وباء معين نصيب كبير كما في أشعار الشاعر العراقي بدر شاكر السياب والمصري أمل دنقل والسوداني التجاني يوسف بشير وغيرهم.
حفلت المدّونة العربية والعالمية بالعديد من المؤلفات التي أرخت للطاعون والأوبئة والأمراض من خلال روايات وأقاصيص وقصائد شعرية ذات طابع إنساني مرهف يبحث عن الحب وينشد الصحة في مناخ عصيب إنتشر فيه ما ينغّص على الانسان حياته،فهنالك الكثير من الروايات والإبداعات التي تحدثت عن الأوبئة والأمراض وهي تنشد وتبحث عن طوق النجاة.
"فيروس كورونا الوباء في الواقع... مقابل الوباء في الروايات..."،هل الحقيقة أغرب من الخيال كما أشار الكاتب الأمريكي مارك توين ذات مرة؟
الآن لدينا جميعنا فرصة الحكم بأنفسنا، لأن الصحفي والكاتب الأمريكي المخضرم "لورانس رايت" كتب للتو راوية مثيرة من المقرر إصدارها في وقت لاحق من الشهر الجاري بعنوان "نهاية اكتوبر" وتتحدث الرواية عن جائحة عالمية _ مرض يشبه الأنفلونزا_ يبدأ في الشرق الأقصى لكنه ينشر في جميع أنحاء العالم وينفجر ذلك الوباء في السعودية خلال موسم الحج السنوي حيث يوجد في مكة نحو ثلاثة ملايين حاج ويتم إغلاقها.
هل يبدو هذا خيالياً؟ ليس كذلك عندما نتذكر أن الصين وضعت في الآونة الأخيرة حوالي 11 مليون شخص في مدينة ووهان تحت الإغلاق وأتخذت إجراءات مماثلة في جميع أنحاء العالم،وكتب راين أيضا في روايته: "الكتاب ليس نبوءة، لكن ظهوره في وسط أسوأ جائحة في الذاكرة الحية ليس من قبيل الصدفة تماماً". فكرة الرواية بدأت كسيناريو سينمائي قبل عقد من الزمن عندما طلب منه المخرج أن يكتب سيناريو حول نهاية الحضارة،لم يكتمل ذلك العمل أبداً،لكن كانت القصة تلاحقه دائما وقرر العودة إليها كرواية، رايت الكاتب الصحفي تعامل مع الأمر تماماً مثل أي مهمة صحفية أخرى حيث يقوم بإجراء بحث وإعداد مفصل، سمع رايت تحذيرات واضحة عن حدوث شيء مثل الفيروس التاجي، لم يكن السؤال الأساسي "ماذا لو حدث؟" لكن "متى؟" والأهم من ذلك سأل الكثير عن مدى إستعداد الحكومات للتعامل مع مثل هذا الوباء.
"فيروس كورونا: كيف تجسدت الأوبئة في روايات وأعمال أدبية؟"، في أوقات تكتنفها الشكوك وتسودها أجواء غريبة من نوعها كتلك التي نعيشها حالياً وتزيد خلالها عزلتنا الإجتماعية بهدف تقليل معدلات الإصابات بفيروس كورونا المستجد، توفر لنا الأعمال الأدبية المهرب والعزاء والسلوى والرفقة كذلك، لكن هنالك من قد لا يشعر بالراحة نفسها إزاء تزايد جاذبية القصص والروايات والتي تتناول تفشي الأوبئة، فالكثير من هذه الأعمال بات يبدو كما لو كان كتباً إرشادية توضح لنا كيفية التعامل مع وضعنا الراهن،كما يقدم لنا العديد منها تسلسلاً زمنياً دقيقاً لوتيرة تطور وباء ما من ظهور الأعراض الأولى له وحتى بلوغ ذروته الكارثية ثم العودة بعد ذلك إلى الأوضاع العادية، غير أن تلك الروايات تظهر لنا في الوقت نفسه إننا واجهنا من قبل الوضع الكارثي الحالي ونجونا منه كذلك، من بين هذه الأعمال: "دفتر أحوال عام الطاعون" وهي رواية أصدرها الكاتب الانجليزي دانييل ديفو عام 1722 ووثق من خلالها الطاعون الذي اجتاح لندن عام 1665 مُقدماً تأريخاً تفصيلياً على نحو يبعث القشعريرة في الأبدان لأحداثه، نتذكر من خلالها ردود فعلنا حيال الصدمة الأولى الناجمة عن ظهور وباء جديد وتفشيه على نحو شرس بيننا، هنا بوسعنا التفاؤل ما الذي يمكن أن يكون أكثر دراماتيكية من أن يرسم الكاتب بقلمه صورة لطاعون رقي طور التشكل والتفاقم ويصوّر تلك اللحظات التي تتصاعد فيها المشاعر والضغوط وتستقيظ غريزة البقاء من سباتها؟
في المقابل ألّف الكاتب "ألبير كامو" رواية الطاعون تدور أحداثها في مدينة وهران الجزائرية لتحكي لنا كيف شهدت هذه المدينة إغلاقاً كاملاً لأشهر عدة بالتزامن مع تفشي وباء يودي بحياة الجانب الأكبر من سكانها وهو ما حدث على أرض الواقع هنالك في القرن التاسع عشر، ويزخر العمل بالكثير من أوجه الشبه مع الأزمة التي نواجهها اليوم،وتتناول الرواية كيف ظل المسؤولون المحليون في البداية يحجمون الإعتراف بالمؤشرات المبكرة المنذرة بالطاعون والمتمثلة في جثث الفئران المرافقة التي تناثرت في الشوارع.
وإذا انتقلنا إلى وباء الإنفلونزا الإسبانية الذي أجتاح البشرية عام 1918 سنجد أنه أعاد صياغة شكل العالم وقاد إلى وفاة خمسين مليون من سكانه، بُعيد مقتل عشرة ملايين آخرين خلال الحرب العالمية الأولى ونلاحظ المفارقة أن التأثير المأساوي الذي خلّفه الوباء على العالم بدا باهتاً في ظل الأحداث الأكثر مأساوية المتعلقة بالحروب والتي شكّلت مصدر إلهام لعدد لا حصر له من الروايات.
في الوقت الذي يتبع فيه الناس في مختلف أنحاء العالم قواعد مثل التباعد الإجتماعي وتشهد دول في شتى أرجاء المعمورة عمليات "إغلاق كامل" يبدو مألوفاً بالنسبة لنا الوصف الذي قدّمته الكاتبة الأمريكية "كاثرين آن بورتر" للخراب الذي خلّفته الإنفلونزا الإسبانية في سياق روايتها "حصان شاحب فارس شاحب" الذي صدرت عام 1939،واللافت هنا أن الكاتبة نفسها كادت أن تفارق الحياة جرّاء الإنفلونزا الإسبانية.
فيروس كورونا:الأوبئة في كتابات المؤرخين وخيالات المبدعين أحداث يمكن تصديقها بشدة"، أما الأوبئة التي ظهرت في القرن الحادي والعشرين مثل تفشي متلازمة الالتهاب التنفسي الحاد "سارس" عام 2002، وفيروس كورونا المرتبط بمتلازمة الشرط الأوسط التنفسية "ميرس" عام 2012، والإيبولا عام 2014، فقد شكلت مصدر إلهام لأعمال تناولت ما يعقب مثل هذه الأحداث الكارثية من خراب وانهيار جرّاء الأوبئة من مدن خاوية على عروشها وأماكن يعمها الدمار.
في رواية "عام الطوفان" التي صدرت عام 2009، تناولت الكاتبة الكندية "مارغريت اتوود" عام ما بعد تقشٍ وبائي أدى إلى أن تصل البشرية إلى حافة الانقراض، وتدور أحداث العمل بعد 25 عاماً من فناء غالبية سكان الأرض بفعل "طوفان" ليس بماء تمثل في وباء خبيث انتقل عبر الهواء وكأنه يطير بجناحين ليجتاح المدن كما الطريق المستعر.
ولعل الجاذبية الشديدة التي يتسم بها "أدب الأوبئة" تعود إلى أنه يتناول وقوف البشر جميعاً في صف واحد متآزر لمواجهة عدو لا يمت للبشرية بصلة، ففي هذا النوع الأدبي ما من اخيار أو أشرار،كما أن الوضع الوبائي الذي يتناوله الكتّاب من خلاله يبدو شديد الحساسية والدقة،ففرص بقاء كل شخصية من شخصيات هذه الأعمال على قيد الحياة تساوى مع احتمالات هلاكها سواء بسواء،ومن شأن تنوع ردود الفعل التي يمكن أن تصدر من الأفراد إزاء ظروف قاسية مثل هذه توفر مادة خصبة للكاتب والقارئ على حد سواء يأخذنا ذلك أيضا إلى رواية "قطع" التي أصدرتها الكاتبة "لينغ ما" عام 2018،والتي وصفتها "ما" نفسها بأنها عمل يتناول أوضاع العالم في ما بعد كارثة هائلة دمرته تماماً تقريباً،وتدور أحداثها أن الناجية "آن تشن" واحدة من الناجين من تسعة فرّوا من مدينة نيويورك خلال وباء اجتاحها عام 2011، وتصوّر الكاتبة مشهد المدينة بعدما انهارت البنية التحتية واستقبلت الفوضى شبكة الإنترنت فيها وتوقفت شبكة الكهرباء عن العمل.
ورواية أخرى عام 2014 أصدرت الكاتبة الكندية "إيميلي سانت جون ماندل" رواية "المحطة الحادية عشرة" التي تدور أحداثها قبل تفشي انفلونزا سريعة الانتشار بشكل غير مألوف في العالم،وقد انطلقت العدوى بحسب الرواية من جمهورية جورجيا إذ انفجرت هنالك وكأنها قنبلة نيوترونية فوق سطح الأرض لتزهق أرواح 99% من سكان العالم.
"من الكوليرا إلى كورونا... أوبئة فتّاكة ظهرت في روايات عالمية على مدار التاريخ" يمثل أدب الأوبئة انعكاساً للكثير من الأزمات الصحية التي يمر بها العالم منذ القدم حيث كانت تلك الأوبئة المحرك لأقلام الكثير من الأدباء والروائيين بشكل خاص وتطرقت للكثير من الروايات إلى الحديث عن تلك الأمراض التي أحدثت هزات عنيفة في العالم بأسره مخلّفة وراءها الكثير من المآسي التي لا تزال عالقة برقعة الذاكرة العالمية،وليس فيروس كورونا المستجد إلا أحد تلك الأوبئة التي مثلّت محطات قاتمة في تاريخ البشرية مستوقفة العديد من الكتّاب والمؤرخين عندها،بعدما أبادت أعداد هائلة من النفوس البشرية في كل بقعة من بقاع الأرض،وقد حفل تاريخ الأدب العالمي بالعديد من تلك النماذج التي سنقف عندها في الأسطر المقبلة.
رواية "الطاعون" للكاتب الفرنسي ألبير كامو عام 1947 تدور أحداثها حول مرض الطاعون الذي انتشر في فترة الأربعينات بمدينة وهران الجزائرية أثناء استعمار الفرنسيين لها،وجعل المدينة تعيش بمعزل عن باقي المدن.
"الحرافيش" أصدرها الروائي نجيب محفوظ عام 1977 متحدث فيها عن الوباء الذي حلَّ بأهل القرية جميعاً ولم يترك غفيراً ولا وزيراً إلا وألمَّ به،حتى بانت البلدة خاوية بعدما استفحل المرض على كل ما فيها. "الحب في زمن الكوليرا" هي الرواية التي ألّفها الكاتب الشهير جابرييل ماركيز عام 1985 تجسد قصة حب التي نشأت بين شخصين وبدأت منذ سن المراهقة واستمرت حتى بلوغهما عمر السبعين إذ يقرر العاشق أن يقضي حياته مع معشوقته بعدما شاء القدر أن يجمع بينهما ثانية بعد وفاة زوجها،واللافت للنظر أن وباء الكوليرا في الرواية لم يكن حقيقة وإنما اختلقه بطل الرواية أثناء رحلته مع حبيبته على متن السفينة بعدما أعلن انتشار وباء الكوليرا بها ليفر الجميع خوفاً من الوباء ويضل هو وحبيبته وحدهما رافعين إشارة صفراء لتدل على وجود استمرار الوباء ثم يخبرها بأنها خدعة ليكملا حياتهما معاً في رحلة نهرية لا تنقطع."العمى" من أشد الأوبئة غرابة الوباء الذي حضر في رواية العمى الذي أصدرها الكاتب جوزيه ساراماغو إذ يجسد فيها ذلك الوباء الفتّاك "العمى" الذي لم يترك أحد إلا وأصابه. "الموت في البندقية" يحضر وباء الكوليرا أيضا في رواية الموت في البندقية الذي ألفها الكاتب الألماني توماس عام 1922 ليتحول فيما بعد إلى عمل سينمائي. "الموقف" يتحدث الكاتب الأمريكي ستيفن كينج في روايته الموقف عن تفشي نوع خطير من الأوبئة يشبه الأنفلونزا التي ستقضي على البشر جميعاً، إذ تحكي الرواية عن كيفية انتهاء العالم . "عالم العجائب" خرقة قماشية تأتي من لندن إلى قرية نائية معزولة حاملة معها وباء الطاعون الذي يفتك بأهل القرية،هكذا تحكي رواية "عام العجائب" الذي ألفها جيرالدن بركس. "عيون الظلام"... كورونا منذ عام 1981 واللافت للنظر أنه توقع تفشي فيروس يشبه فيروس كورونا الحالي تماماً ويقع في مدينة ووهان الصينية أيضا،وحيث أسماه "ووهان 400" وأطلق الكاتب على ذلك المرض "السلاح المثالي" إذ أنه بالرغم لا يبقى خارج الجسم لأكثر من دقيقتين إلا أنه يمكن أن يفتك بعدد هائل ممن حوله،بل ويمكنه أن يتسلل من دولة إلى أخرى، ولذلك تدور أحداث الرواية حول مغامرة لإكتشاف أسرار ذلك الفيروس.
"هل سيحضر كورونا المستجد في أدب الأوبئة؟" إن المتأمل في العامة الادبية يجد يجد أن جائحة كورونا كوفيد_19 بدأت تقتحم عوالم القصائد والقصص والروايات،بل إن الكتابات حولها شرّعت وبدأت تؤسس لنفسها ما يسمى ب "أدب كورونا" على الرغم أن تجربة البشر مع هذه الجائحة لم تكتمل بعد حتى توجد لنفسها فضاءً خاصاً ونلاحظ أن هنالك الكثير من الكتابات والروائيات والقصائد التي تنبأت بوجود مرض كورونا،على سبيل المثال هنالك مقالة للكاتبة مها محفوظ التي عنونتها ب "كورونا والأدب" هل تنبأ الأدباء به؟، وتحدثت عن فكرة الوباء الحقيقي والوباء المجازي،والكثير الكثير من الأدباء اللذين تم ذكرهم سابقاً ولعددهم الكبير لا استطيع حرصهم هنا،لكن بالمحصلة يظهر للقارئ الكريم أن الوباء قد يبين في الاعمال الادبية حقيقياً أو مجازياً يستعمل لأغراض أخرى كالحب والحرية والارادة وغيرها،وما زال مرض كورونا من السابق لأوانه الحديث عن أدبه وما يدور في فلكه، إذ لم يحضر بعد في تجارب البشر فهو في بداياته،وما زالت الدول تصارع لأجتثاثه والحد من انتشاره،وبينما تنتشر عودى كورونا يوماً بعد يوم آخر في العالم الجديد الجاري لكنها مثل أوبئة ضربت البشرية ستكون تاريخاً بلا شك وحكايات نراها اليوم، بل ربما كنا جزءاً منها، ويستطرد كاتب "ايبولا" في افادته: " الآن كورونا يحدث أسى مضاعفاً بسبب انتشاره العظيم في كل مكان وبسبب ضحاياه الكثيرين، ومؤكد سيأتي من سيكتبه في رواية ذات يوم... ربما أنا من كتبت هذا المقال.