لقد كان متوقعا بالنسبة لي فوز رئيس جمهورية بيلاروسيا المستقلة الكسندر لوكاشينكا للمرة السادسة على التوالي بتاريخ 10 اغسطس الجاري من العام الحالي 2020 , وهو الذي يشبه في شخصيته الى حد كبير رئيس الفيدرالية الروسية فلاديمير بوتين من حيث الكاريزما الفولاذية وطريقة الجلوس على الكرسي الرئاسي ولا سباب محددة , واختلاف بينهما ملاحظ في ان دستور بيلاروسيا يسمح للرئيس بالترشح بقدر ما سمحت له صحته بذلك وبشكل متتالي , بينما في روسيا يتم الاحتكام للدستور الذي يلزم الرئيس بعد ترشحه لجولتين رئاسيتين ان يترك جولة رئاسية لغيره او لصديق معروف يؤتمن جانبه . و تشابه لوكاشينكا مع بوتين في التمديد دستوريا للفترة الرئاسية من اربعة اعوام الى سبعة اعوام في بيلاروسيا , ومن اربعة اعوام الى ستة اعوام في روسيا وسط قصر الكرملين الرئاسي . و الهدف المشترك هنا , والذي هو خارج التنسيق لكليهما بطبيعة الحال هو المحافظة على الدولة و هيبتها , وعلى مسارها الاصلاحي , و البنائي التنموي الشامل وبطريقة ادارية مركزية . و للاستمرار في مواجهة الحرب الباردة من طرف الغرب بقيادة امريكا , وبما تتضمن من تفاصيل من بينها سباق التسلح , و الاقتصاد . وفي المقابل فأن هكذا مسار انتخابي بيلاروسي , او روسي لا ينسجم و توجه المعارضة في البلدين الجارين بسبب المطالبة بتداول السلطة , و لتحقيق نتائج افضل في مكافحة الفساد , وفي العمل التنموي ايضا . وبينما هي المعارضة في بيلاروسيا شخصيات و رموز خارج و داخل السجون , وطابور خامس,وهروب مقابل لزعيمة المعارضة سفيتلانا تيخانوفسكايا الى لتوانيا احتجاجا على نتيجة الانتخابات التي حصلت فيها على 10 % من اصواتها , نجدها في روسيا تمثل حزبا كبيرا سبق له ان بنى الاتحاد السوفييتي وبكامل هيبته مثل الحزب الشيوعي الى جانب وجود معارض بارز مثل السجين سابقا المحامي الكسي نافالكين , وطابور خامس تتعارض مصالحه مع الكرملين . و الشيوعية بالمناسبة لامست شخصية الرئيسين لوكاشينكا و بوتين , و لكل منهما انطباع خاص عن مسيرتها . وفي الوقت الذي فيه لازال لوكاشينكا يتمسك بالشيوعية الاشتراكية , انشطر بوتين عنهما وواصل بناء دولته روسيا على مقاسه الوطني و القومي منفتحا اكثر على العالم و عبر عدم الاعتراف بالحرب الباردة , و لا حتى بسباق التسلح , و دعا في المقابل لعالم متعدد الاقطاب يرتكز على العلاقات الدولية المتوزانة البعيدة عن خلق الازمات الدولية مثلما تفعل امريكا مثلا , و الامثلة على ذلك كثيرة مستفيدا من حجم بلاده الجغرافي الذي يعادل سدس مساحة العالم . ومن قوتها النووية, ومن تمسكها بالقانون الدولي . ووضع مشابه في دمشق التي حولت الجمهورية الى ملكورية , و تمديد رئاسي مشابه , و تعديل للدستور , وتفاصيل كثيرة اخرى .
من هو لوكاشينكا , و لماذا انتخبه شعبه البيلاروسي للمرة السادسة على التوالي , و لماذا قدمه على المعارضة ؟ هل من الممكن ان نحسب ذلك على بسبب نجاحاته الاقتصادية , و الامنية , و السياسية ,ام بسبب صرامة شخصيته و قمعه للمعارضة في بلده التي منهم من يقبع حاليا في السجون ؟ وكيف تمكن من انقاذ ترشحه الرئاسي من خفافيش الداخل و الخارج ؟ و كيف ادار ظهره لجائحة كورونا التي ضربت العالم و لازالت تضربه وسط موجتها الثانية ؟ وكيف تصرف في وقت سابق في تطويق الارهاب الذي استهدف عاصمته مينسك ؟ وما دور بلاده و عاصمته في محاولة ترتيب اتفاق سياسي لضبط الملف الاوكراني - الروسي و بجهد مشترك مع روسيا و اوروبا ؟ عن هذه الاسئلة و غيرها اجيب هنا و بما ملكت من مخزون معرفي, و تحليلي, و بتواضع لعلني اكون مفيدا للقاريء الكريم عبر عنصر التشويق و رصد الاحداث تباعا , فتعالو معنا نبحر سويا الى عمق بيلاروسيا و سياستها الداخلية و الخارجية , والى اقتصادها , و امنها الداخلي .
لقد بدأ الكسندر غريغوروفيتش حياته في العمل العام مزارعا , ثم مسؤولا عن سوفخوز زراعي , ومحاربا للفساد بعد ترأسه لمكافحة الفساد في برلمان بلاده عام 1993 , و نجح في تقديم رئيس البرلمان ستانيسلاف للمحاكمة بتهمة الفساد , و صعد الى السلطة في عاصمة بلاده مينسك منذ عام 1994 , وامضى في السلطة حتى الان 26 عاما , اي اكثر من المدة الرئاسية للرئيس بوتين مثلا , رغم ان الاخير اي بوتين عدل الدستور مؤخرا , وصفر المدة الرئاسية ليبقى في السلطة ان رغب حتى عام 2036 كما هو معروف . و لوكاشينكا وطني بيلاروسي مخلص لبلاده تماما كما بوتين , و هو سوفييتي الهوى و القومية . وفضل التحالف مع روسيا على التحالف مع اوروبا , ولم يخطو خطوات اوكرانيا مثلا . وهو معروف بصرامة ادارته للحكم لدرجة ان رئيس وزرائه , وكل مسؤول يتحدث وقوفا امامه . و تشدد الرئيس لوكاشينكا في التعامل مع الارهاب الذي ضرب العاصمة مينسك في الاعوام 2005 , و 2008 , و 2011 , وساوى في تنفيذ الحكم القضائي على المجرمين بين المخطط و المنفذ ليكون مصيرهم الاعدام . و الملاحظ بأن لوكاشينكا كان دائما يفوز بحوالي 80% من اصوات ناخبين بلاده اكثر او اقل . و لم يثبت له تدخل روسيا في الانتخابات الرئاسية الاخيرة عن طريق قوة ( فاغنر ) الامنية الروسية الخاصة , وحديث اعلامي روسي يتهم اوكرانيا برغبتها احداث صدام بين بيلاروسيا و روسيا عبر قوة فاغنر , و اختراع قصة التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية البيبلاروسية التي نفتها موسكو . وبكل الاحوال تبقى موسكو اذكى من ان تزج نفسها في صدام مع بيلاروسيا يعيدها لمربع اوكرانيا , و جورجيا . و روسيا الرسمية معنية في المقابل بعلاقات جوار طيبة مع اوكرانيا رغم المماحكات , ومنها رفض الرئيس فلاديمير زيلينسكي لاتفاقية مينسك الموقعة عام 2014 بين روسيا و اوكرانيا تحت اشراف بيلاروسيا , وتحت ضغط التيار البنديري المتطرف في كييف هذا العام 2020, و هي المعاهدة التي تجددت بعد اختراقها عام 2015 لتحمل اسم مينسك 2 تحت اشراف فرنسا ( فرانسوا هولاند ) , و المانيا ( انجيليكا ميركل ) ,و بحضور روسيا و اوكرانيا , و بيلاروسيا ., و كان الهدف تحقيق سلام عادل بين شرق و غرب اوكرانيا , وبين اوكرانيا و روسيا , و بهدف ابعاد اوكرانيا عن السيطرة الامريكية الغربية , وهي التي خسرت القرم جراء تجديفها صوب الغرب .
و بيلاروسيا بلد منضبط سياسيا , و امنيا , و اقتصاديا , وهو زراعي و صناعي , و 40% من مساحته البالغة غابات . و معظم سكانه يعيشون في العاصمة مينسك , و المناطق المدنية التي حولها بحثا عن الحضارة , و الخدمات اللازمة لانسانهم وسط بنيتهم التحتية . و سميت بيلاروسيا بهذا الاسم نسبة الى تغطية الثلج لمساحات و اسعة من اراضيها في فصل الشتاء . و الناتج المحلي 59,66 مليار دولار , والدخل القومي فيها يصل الى 182,5 مليار دولار . و بالمناسبة لم يفرض لوكاشينكا الحجر الصحي على بلاده بعد اجتياح جائحة كورونا للعالم , و اصر على ان يعيش الانسان البيلاروسي حياته الطبيعية , و يتعايش مع فايروس كورونا . و بالمقارنة مع روسيا زعيمة الاتحاد السوفييتي السابق التي اجلت احتفالية النصر على الفاشية و عرضها العسكري المهيب من تاريخ 9 ايار الى 26 حزيران , فأن بيلاروسيا احتفلت بالنصر على الفاشية بنفس موعده ,ودعت اليه عامة الناس ومنهم كبار السن ,و الجنرالات المتقاعدين " المحاربين القدامى " . والدبلوماسية البيلاروسية خارج الحدود نشيطة , ولاحظت من خلالها حضور متكرر لسفيرها في دمشق يوري سلوكا للانشطة الثقافية الروسية هنا في عاصمتنا الاردنية الجميلة عمان . وللحديث بقية .