فلسفة القلب والعقل
أ.د. هيثم العقيلي المقابلة
11-08-2020 10:33 AM
في هذه المحطة أجتهد في الاجابة على تساؤل لاحقني طويلًا ألا وهو: اذا كانت الاحاسيس تترجم و العواطف تتشكل في الدماغ فما دور القلب في المشاعر وكيف تنشرح او تعمى القلوب التي في الصدور. ثم لماذا تختلف استجابة الافراد للمثير او الخطر أو التوتر بين هدوء و سكينة، خوف وغضب فقتال او هرب، تجمد و انفصال عن الواقع. قد يظهر ان التساؤلين متنافران متباعدان ولكن الحقيقة أنها يلتقيان بمسار ما. لا أقول أني أملك الاجابة كاملة ولكنني سأطرح في هذه المحطة معرفتي عسى ان يستكملها صديق أو زميل أو طالب أو استاذ فاضل من أساتذتنا.
أبدا الاجابة من مقالتي السابقة والتي قلنا فيها ان الجسد (بما فيه الدماغ و القلب بالمفهوم التشريحي) مادة تنفذ برمجة العقل (mind) و من خلال التغذية الراجعة يحافظ العقل على التوازن في ادق تفاصيله من خلال الجهازين العصبي و الهرموني. كما ذكرت أن الفرق الحقيقي بين الانسان و الحيوان هو الوعي الذي يميز به الانسان النجدين ويقرأ به الماضي ويخطط للمستقبل ومن خلاله يتحكم بالعواطف والشهوات والنزوات وبالتالي فالوعي الذي مركزه الناصية (prefrontal cortex) قد يكون جزءا من النفس.
يتحكم العقل بالاعضاء اللاإرادية وبالتوازن الجسدي الدقيق من خلال الجهاز العصبي الذاتي (autonomic nervous system) بشقيه المتنافرين المتضادين الجهاز العصبي الودي ونظير الودي. فالاول يزيد دقات القلب، يرفع الضغط، يقلص الشرايين والعضلات، يخفض وأحيانا يوقف كل العمليات غير الضرورية في مرحلة الاستجابة للخطر مثل جهاز المناعة والجهاز الهضمي والتناسلي في حين ان نظير الودي يعمل تقريبا العكس ولذا فهو جهاز الهدوء والسكينة.
هذا ما تعلمناه في كلية الطب ولكن ذلك يبقى عاجزا أو قاصرا عن تفسير ما طرحته في البداية. قبل بضع سنوات خرج العالم بورغس بنظريته الرائعة والتي تدعى الاستجابات المتعددة (polyvagal theory) و التي تقول أن الجهاز العصبي الذاتي في الحقيقة ثلاث أجزاء وليس جزئين ومن هنا تبدأ الاجابة على ما طرحته في مقدمة المقال. حسب هذه النظرية فالحياة اليومية والاستجابة تمر في ثلاث مراحل الاولى وهي الهدوء والارتباط وهذه من خلال نظير الودي الحديث في التطور (myelinated vagus) والذي يربط مناطق محددة في الدماغ الى القلب والرئتين والاحبال الصوتية وعضلات الوجه والسمع ويعمل في مراحل الهدوء وكلما كان هذا الجهاز اقوى سيطرت السكينة والاطمئنان وذلك من خلال تثبيط الجهازين الاخرين. أما المرحلة التالية فعند يضعف أو يعجز نظير الودي الحديث يذهب العقل الى الودي مفعلا الغضب و الخوف و معهما القتال و الهرب مع كل ما يحتاجه الجسم لذلك من الادرينالين و الكورتيزول. وفي مرحلة لاحقة عندما يعجز الودي في حال الخطر الداهم والعجز عما سبق ينتقل العقل الى نظير الودي البدائي القديم أو الاولي (un myelinated vagus) والذي يؤدي لحالة من التجمد و فصل الارتباط بين العقل والجسد فيفقد الفرد مرغما القدرة على المقاومة ويختفي الصوت ويتبخر الاحساس وتعمل الامعاء والمثانة على التفريغ.
شعور التجمد والانفصال بين العقل والجسد يمر به المقاتل وتمر به المغتصبه وكل من يتعرض لخطر يقدره العقل أنه خارج قدرته. لا بد أن أؤكد ان هذه الاستجابة هي جبرية من العقل وبالتالي لا معنى أن يضع المحيط شعورا بالعار أو الخجل على من يتعرض أو تتعرض لذلك بل أن يوفر لهم الدعم وإنه ليحزنني أن أقرأ أحيانا تعليقات على التواصل الاجتماعي على من تتعرض لتحرش أو اكثر من ذلك لماذا لم تصرخ أو تقاوم بالرغم ان ذلك ليس في قدرتها فهو جبري من العقل. أحببت فقط أن أذكر هذه المعلومة لاهميتها خصوصا أن بعض كليات الطب ما زالت تدرس الجهاز العصبي الذاتي وفق المفهوم القديم.
بعد أن أجبت على السؤال الثاني اعود للتساؤل الذي لاحقني طويلًا. الجهاز نظير الودي الحديث يشتبك دماغيا من جذر الدماغ إلى الناصية الى المنطقة الحوفيه (قلب الدماغ) المسؤولة عن القلق والتوتر والالم وفرز الذاكره وربطها الاحداث بالعواطف وهي الجزء الأهم في العقل اللاواعي. أما خارج الدماغ فيرتبط ما فوق الحجاب الحاجز فإن كان قويا مسيطرا كان القلب مرتاحا منشرحا و التنفس عميقا هادئا و الصوت رخيما مطمئنا والسمع مصغيا وتعابير الوجه مطمئنة مرتاحة. قد لا نستطيع الاجابة بشكل كامل قبل ان نعرف مدى التحكم المتبادل بين الناصية ونظير الودي الحديث وماذا يفرز القلب من أشباه الهرمونات ومدى تأثيرها في الناصية والجهاز الحوفي من خلال نظير الودي الحديث.
الخص وأقول أنني في هذه المحطة حاولت الإجابة على التساؤلين بما توفر لي من معرفة و لكن يبقى الموضوع مفتوحا على الاجتهاد. كما أقول أن نظرية بورغس والتي سيكون لها تأثير مستقبلي في مجالات طبية عديدة لا يجوز إهمالها في التعليم الطبي. ويبقى الرابط بين العقل بشقيه الواعي واللاواعي وبين القلب هو نظير الودي الاحدث في تطور الانسان.