لا أعرف من لبنان سوى الحروب والخوف، وانتظار المعركة الآتية، والهرب المتواصل من المجهول. فالسلم، وإن طال، يبقى هدنة بين حربين أو انفجارين. تشتري بيتاً فتفكر إن كانت فيه غرفة آمنة تختبئ فيها أو ملجأ، وكراج للسيارة، عند المحن. يتخرج أولادك فتنشغل إلى أي بلاد يمكنك أن تصدّرهم لتقيهم مأساة، تعرف أنها واقعة حتماً. في بلاد لا أمان فيها، ولا سكون، لم يعد يحق للمواطن فسحة، ولا في البراري، بعد أن وصل الفساد إلى العشبة والشجرة وتحول ماء النهر سمّاً. كانت الحروب بنيرانها مقتلة للناس ودماراً للحجر، ثم اتخذت وجوهاً أخرى، فمدّت أصابعها إلى الجيوب، واستلّت منها آخر فلس، وصلت إلى المستشفيات فحرمت المرضى من ترياقهم وآخر ملاجئهم. لم يرحم أحد اللبنانيين في سلمهم كما في حربهم. الفساد حرب من نوع آخر، يتبين أنها أكثر شراسة من الصواريخ. ثمة من يحذر الآن، من تنشق الهواء، بعد «الانفجار الكبير» ومن تلوث الأجواء. فأين نذهب؟ يقولون لك: «اترك البلاد!»، لكن، لمن؟ ولكم من الوقت؟ وهل من نهاية لهذا الأبوكاليبس؟ «خراب بيروت» الأخير، هو الحرب الأقذر، في سلسلة الحروب المتناسلة الكريهة. إنه الحرقة التي أشعلت قلوب كل عائلة، إن لم تفجع بولدها، فبملكها. لم يسبق لبيروت أن دمّر نصفها، وأن وصل الدمار إلى كل بيت فيها ودكان وزقاق. النكبة تفوق التصور، والخراب أسطوري، كما لو أن العاصمة خرجت من زلزال، والضحايا، يستغيث من بقي حياً منهم تحت الركام، فيما الأشلاء متناثرة، وأهالي المفقودين يجوبون المستشفيات بحثاً عن أولادهم.
إنه الجحيم، الذي كان يمكن تفاديه. جهنم التي لم تكن حتمية، ولا مكتوبة على الجبين. الكوارث الربّانية يتجرعها المبتلون بصبر المؤمنين الخاضعين. ما يحدث الآن هو من صنع مجرمين، ارتُكب بأيدي سفّاحين، ويجب أن يعاقبوا. لمرّة واحدة على المواطنين أن يتجردوا من كل انتماء إلا إنسانيتهم الحقة. على المسؤولين أن يصغوا، ويدركوا أن ما حصل لا يمكن أن يمر بعمليات تمويه وتجميل، ومماطلة، ووضع حفنة من المساكين وراء القضبان. العالم كله ينظر إلى لبنان الذي كان يتوقع أن ينهار ببطء، قد يمتد لأشهر، فإذا به يخرّ صريعاً بلمح البصر.
بعد مجزرة بيروت، نشر اللبنانيون صور المشانق على حساباتهم التويترية. لو كانوا يدركون، هؤلاء الجالسون في قصورهم، فإن المشاعر جياشة، والغضب عارم. لو يعلمون فقط، كم من الألم يعتلج في الصدور. هذا الشعب المهادن المسالم، يستحق حكّاماً من صنف آخر، مسؤولين من طينة أخرى.
أسوأ عنوان وقعت عليه عيني بعد «الخراب الكبير» هو «زلزال بيروت يحيي 8 و14 آذار». هل هذا ما يريده اللبنانيون؟ هل يعنيهم كثيراً هذا النزال، وقد بات مئات الآلاف بلا مأوى، وأكثر منهم بكثير بلا خبز. أي ابتلاء أن تكون السياسة في خدمة الشيطان؟ المثكولات يريدن معرفة من قتل أبناءهن، وأن يرونهم معاقبين مصفّدين، بصرف النظر عن أديانهم وولاءاتهم وأحزابهم. الثأرية ليس هذا وقتها، ولا تصفية الحسابات الدونكيشوتية. بعض المحاسيب لا يزالون يغررون بكم يا سادة القوم. إنهم لا يصدقونكم، لأن الغالبية الصامتة ليست معكم، لم تعد وراءكم، وهي تصمت بانتظار اللحظة المناسبة. أيام الإقطاع ولّت إلى غير رجعة. هل تعلمون أن مجموعة صغيرة من الشبان تمكنت بإعلان متواضع على «إنستغرام» من جمع 4 ملايين دولار من التبرعات في 3 أيام، فقط لأنها مأمونة من المرور بأي قناة سياسية؟ هل تعلمون أن من يريدون المساعدة لا شرط لهم سوى تحييدكم، وهم يعرفون أنكم حكمتم البلاد بالتكافل والتضامن، ولا فرق بين أي أحد منكم. هؤلاء لا يسألون عن أرقامكم من 8 و14، لأن المأساة تتجاوز أحقادكم الدفينة التي تخبئونها من القرن الماضي، وتريدون تفجيرها في وجوه الأبرياء.
أما آن لهذه الصراعات المميتة أن تجد لها حلاً على طاولة ما، في غرفة على قياسكم؟ هل كنتم تنتظرون الرئيس الفرنسي لتتبادلوا القبل؟ حقاً إنه لأمر مشين أن يصبح إيمانويل ماكرون أكثر شعبية من أي زعيم لبناني، وهو يتجول في الأحياء المنكوبة. وإنها لنكبة أخرى، ألا يتمكن أي وزير من زيارة حي بيروتي لأنه سيرشق ويطرد ويلعن، وليس أكيداً أنه سيبقى سالماً.
ما ينتظره المتألمون هو انقلاب في المشهد، هو كسر لهذه الحلقة الجهنمية في الحكم التي تتداول عليها الوجوه نفسها أو من يتقمصونهم. اللبنانيون مسالمون، مسالمون، حدّ الاستفزاز. المظاهرات التي تسلحت بالأغنية والرسم والجداريات والشعارات الطريفة والنكات اللاذعة، أعطت انطباعاً خاطئاً بأن الظلم يمكن أن يستمر، وأن من ترك 2700 طن من المواد القاتلة، التي تنسف مدينة عن بكرة أبيها، قرب أحياء مكتظة بالسكان، لـ7 سنوات، متهاوناً أو متآمراً، يمكن أن يفرّ من العقاب.
لصبر الناس حدود، فلا تمتحنوهم في أغلى ما يملكون. وقد فعلتم.
(الشرق الأوسط)