لم يسبق لبلدنا ان شهد تضخما في اعداد من يحملون الشهادات العليا كما نراها اليوم. في عشرات الجامعات والمعاهد تمنح درجات الدكتوراه والماجستير والبكالوريوس لأشخاص يصعب ان تصدق انهم مروا بتجارب التعليم التي صقلت وشكلت شخصية الباحث والخريج الذي يعرف الاطار النظري للميدان ويمتلك ادوات البحث والتحليل.
شهوة الألقاب وحمى الشهادات التي ألمت بالمجتمع الاردني لم تأت صدفة فقد تضافرت على ولادتها مجموعة عوامل حتى وصلت الى هذا المستوى الذي اصبحنا نلمح آثاره على جامعاتنا ومؤسساتنا وثقافتنا العامة وقيمنا.
التوسع في التعليم العالي ظهر في مطلع تسعينيات القرن الماضي يوم تأسس الائتلاف بين مجموعة من المستثمرين في التعليم العالي مع ابنائنا العائدين من الخليج العربي واصحاب الصلات والنفوذ محليا لاستيعاب المئات من الاكاديميين العائدين من دول الخليج.
يومها اخذت الجامعات الخاصة تتوالد بمتوالية تفوق حاجات البلاد من الاكاديميين وبمعايير وترتيبات هدفت الى استقطاب الطلبة حيث أنشأت برامج التعليم المسائي لجذب وتشجيع العاملين في الدولة والقطاع الخاص على الالتحاق بالجامعات بأوقات وبرامج تناسبهم ثم ما لبثت التسهيلات ان طالت اسس القبول بالالتفاف عليها من خلال برامج القبول الموازي والبرنامج الدولي وغيرها من الاستثناءات التي اخذت بالتنامي تحت مبررات لكي لا يذهب الطلبة الى السودان وبيروت وغيرها.
اليوم يمكن ان تجد في اي قرية اردنية عشرات العاطلين عن العمل من حملة الدكتوراه في كافة التخصصات ويمكن ان تجد العشرات ممن اصبحوا مدرسين في جامعاتنا وهم لا يملكون القدرات العلمية والبحثية التي تساعدهم على تعليم وتدريب الطلبة الامر الذي يدفعهم للمسايرة والميل الى بناء علاقات تصالحية مع الطلبة يستخدم فيها الاساتذة سلطتهم لتسهيل عبور الطلبة ويقبل الطلبة بوجود هؤلاء الاساتذة دون إثارة ضجيج حول تدني كفاءتهم.
فكرة السباق مع السودان وابتداع اتحاد الجامعات العربية الذي يجبر الاعضاء على الاعتراف بأي شهادة تصدر عن اعضاء الاتحاد وعدم وجود سياسية توجيهية تحدد سقوف الاعداد لمن يذهبون للتعليم والتعليم العالي من الخريجين كانت الاسباب الاهم وراء حالة التدهور.
من وقت لآخر يتحدث الناس عن الحالات التي حضرت فيها لجان المناقشة لرسائل الدكتوراه من بعض الجامعات العربية الى الاردن لمناقشة رسائل بعض كبار الموظفين بتمويل منهم حيث تحولت صالات الفندق الى قاعات بحث وتدريس.
التضخم الذي شهده التعليم العالي والسباق نحو الشهادات العليا والالقاب كان وراء تردي مستوى المهن والاعمال التي يحتاج لها المجتمع.
آلاف الشباب والشابات الذين درسوا في المعاهد والكليات المتوسطة لاكتساب المهن والحرف التي يحتاج لها المجتمع تركوا مهنهم طمعا في الالتحاق في برامج التعليم التي اتاحت لهم التجسير منقلبة على المفهوم الاساسي القاضي بأن يوجه نسبة معقولة من اصحاب المعدلات العالية الى التعليم الجامعي ويذهب البعض الآخر للمعاهد والكليات والمراكز التي تؤهلهم لأداء الاعمال والمهن التي يحتاج لها المجتمع.
المجتمعات الحضرية تقوم على مبادئ التخصص وتقسيم العمل والاعتماد المتبادل في اطار تنظيمي يكفل الكفاءة والقدرة وسرعة الانجاز.
من المؤسف ان ذلك لم يتحقق بسبب التداخل والتعارض في السياسات وتطبيقاتها. منذ عقود والاردن يتحدث عن المهن والاعمال والتشغيل وقد أنشأت معاهد للتدريب وأخرى للتصنيف وفي مرات كثيرة لرفع وعي الافراد والجماعات. ومع ذلك يصعب ان تجد في طول البلاد وعرضها حرفيا تثق بقدرته او كفاءته.
غالبية النقابات الحرفية شكلية جرى تطويعها واستخدامها لأغراض غير مهنية. خلافا لما هو متوقع من الروابط المهنية التي وجدت لتنظم احوال العمال وتحافظ على حقوقهم وتضع القواعد للقبول في المهنة ومنح المراتب والدرجات للعاملين وارساء الشروط والمعايير التي تحدد الكفاءة ومستوى الاتقان والاتعاب او الاجور المستحقة لمستويات الاداء المختلفة.
ينشغل الكثير من نقباء العمال في عضوية عشرات مجالس الادارة والهيئات الاستشارية ويستغل بعضهم الموقع لفرض شروط واملاءات على المؤسسات، في حين يخصخص البعض موقع النقيب او التمثيل لحسابه الشخصي.
في بلادنا التي تعج بمئات آلاف الشباب العاطل عن العمل يصعب ان تجد سباكا او كهربائيا او حدادا محترفا، ومن غير الممكن ان تتيقن من قدرة اي منهم على اداء العمل المناط به دون احداث اعطال اضافية.
من الناحية الشكلية يحرص اصحاب الورش ومكاتب تقديم الخدمة على اظهار رخص ورشهم وتجديدها وتعليق صورها في اماكن بارزة من محلاتهم الا ان الثقة فيما يقومون به ما تزال شبه معدومة. أتمنى ان تولي الدولة هذا الجانب اهتماما يتجاوز الافتتاحات والاشهارات للبرامج التي لا نلمح لها أثرا.
الغد