وادي رم المكان الفريد، فما من اجازة تأتي حتى نعقد العزم للتخييم والمبيت خارج ضوضاء المدينة وصخبها، ليكون مسار العيد في موطن السحر السرمدي وتعانق أرض الشفق الوردي مع سحر السماء، وتربع القمر فوق واديه، طريق البخور والحرير وآسر ألباب المستشرقين.
بدأت الرحلة من مركز زوار المحمية بعد دفع الرسوم متجهين للشرق منه بكامل عدة التخيم والمسير ليومين دون الحاجة للتزويد على الطريق أو دليل لأننا نعرف غياهبه ومسمياته، اتجهنا مع الصباح نحو الفج ما بين أم أربعين وأعمدة الحكمة السبعة، الجبل الذي خَلّد الكولونيل الانجليزي لورنس مذكراته بجانبه ليستمد اسمه من كتابه بعد أن عرف بالمزمار أو جبل الطاعون لأبناء الواد من العرب الأقحاح الضاربة جذورهم في المكان وتاريخه الأصيل.
وصلنا صربوط عطية ومنه لوادي المخرس الضيق بين الجبلين العظيمين صعوداً نحو نقعى السلمانيين، بين ذهول أعمدة الصخر الأسطوانية المعانقة لعنان السماء كصوامع الاعتكاف، لننهي الصعود بمشهد بانورامي يفتح علينا على وادي أم عشرين وما فيه من روعة الخالق مسبحين من جمال المشهد، آخذين أول استراحة عند نقطة النقعى متخيلين فيالق رجال الثورة وكأن أصواتهم تعج عبر الزمان بصيحات النفير والحرية، اتجهنا نحو شق النسيم والتففنا حول الجبل الأصم صوب خشم الحصاني، والدوران حول جبل أم الطواقي والدخول عبر سيقها البارد الذي خفف علينا تعامد الشمس وحرارتها، المنتهي بأم رشراشة، محددين علامتنا الدالة بصربوط لامليح ورجود المطلقة نحو أم العقرب وركبة، وهي الأسماء المتعارف عليها محلياً والموثقة أيضاً في السجلات التعريفية للمكان والمستمدة من أحداث أو أسماء أشخاص أو وصف.
وعند طور أبو مكفورة كان مخيم المبيت الذاتي بعد أن تفقدنا من احتمالية وجود عقارب أو أي حشرات أو زواحف قد تعكر صفو الليل، اخترنا فيه فج مغلق بزاوية توافق التيارات الهوائية الليلية وفي مدخله شُجيرات زادت جمال المكان جمال، جهزنا المخيم لنلحق بغروب الشمس وحواره كأنها قصائد ضوئية تختال ما بين الصخور بصمت وخيال ملهم، حتى غطست باحمرارها ما بين شقيقات لونها من الجبال وخجل ما بين الشقوق.
عدنا لمخيمنا وبعد العشاء أخذنا جولتنا الليلية تحت ضوء القمر والذي استمد الوادي " وادي القمر" اسمه منه، فنوره كافي بأن يغنينا عن استخدام الإضاءة، وما زاد المكان روعة مشاهدة كثافة نجوم لا تراها في سماء المدينة، وإجمالي المنطقة التي نحن نتوسطها تسمى " حسمى" وتمتد من رأس النقب لجبال الشراه في الغرب إلى منطقة تبوك جنوباً في المملكة العربية السعودية، وكانت منطقة عبور رئيسية لقوافل التجارة والترحال عبر التاريخ ما بين اليمن و البحرين وطريق الحرير و بلاد الشام، وأيضا طريق الحج لمكة المكرمة والمدينة المنورة وبيت المقدس، وما تركوه لنا من أثر على صفاء الصخور من نقوش تمثل حقب مختلفة ولسان أهل حضارات من لحيانية، ثمودية، نبطية، اسلامية وغيرهم، كتابات وأشعار وعقود بيع وشراء، أسماء وحروف آيات وحكم ومواعظ، أشكال حيوانات وطيور ونباتات و رسوم ذات دلالات عزة وفخر، ومن بعضها استمدت العديد من القبائل وسم ركوبها من جِمال وخيل وأنعام، بعلامات متعارفة بين العرب والنسب.
ولجوف الليل كان له زائره الهادئ " القط الرملي" الذي أيقظنا ببحثه عن بقايا المعلبات ولو علمنا بقدومه لأبقينا له ما يكفي للاستمتاع بمشاهدته الأولى في حياتنا، وللفجر كان عنوان آخر مع المكان بشروق ذهبي مطل علينا من فوق جبل الطويل وسعيفان عبر السهل المخصص لسباق الهجن، وبعد الإفطار وفك المخيم وتحميل معداته على أكتافنا، تحركنا مع نسائم الصباح إلى سيق البرة ذو الرمل الناعم المحتاج إلى جهد إضافي في المشي، والذي خفف العناء أننا استهلكنا طعام و شراب أول يوم بما يعادل خمسة كيلوغرامات من إجمالي الوزن المحمول، وهذا الأمر مدروس لكل مرحلة ومتطلباتها. السيق فيه من الجماليات ما تجعلك تبقى تنظر إلى الأعلى هنا وهناك ففي كل زاوية منه تشاهد تشكيل مختلف رسمته الريح وصقلته الأمطار عبر الزمان كأنها يد فنان خُلدت أعماله في أهم متاحف العالم ونال بها أشهر جوائز النحت والفنون، استمد الوادي اسمه من جبل البرة ويحاذيه جبل جديدة ومن معالمه شعاب أبو فليخات، طور أبو طبق، ذنيب عير، وينتهي بجرود المطلقة، وأم فلخة، عند صخرة الزيلفة ذات النقوش التاريخية اتجهنا غرباً باتجاه أبو برشمانة شمالي جبل أم خرق فكثيب الخرج، ومرمى موسى الفرس وصولاً لشرق ام اربعين وللالتفاف حوله عند نقطة طريف المراغ الواقعة الى جانب أثر نبطي ما زالت قواعد معالمه ظاهرة للعيان، لنقطة النهاية وهي نقطة الانطلاق الأولى بمسافة بلغت واحد وأربعين كيلومتر.
اكتشفنا في رحلتنا جزء يسير من محمية رم الأكبر في المملكة مقصد السياحة المحلية والدولية، والتي غير في معالم مخيماتها فلم المريخ " ذا مراتن" لتصبح سلسلة من الفقاعات البيضاوية كأنها آتية من الفضاء الخارجي، في حين أن علاء الدين وبطله ويل سميث أيضاً صور في نفس البقعة بسحر شرق سلب ألباب مشاهديه، كما طرحت الدكتورة سماح الدويك في رسالتها للدكتوراة مؤخراً كيفية تطوير المخيمات بشكل يحافظ على شرقية المكان وعروبته برؤية فنية معاصرة تحاكي عبق الماضي بنظرة الحاضر واحتياجاته السياحية، فيما تواصل هيئة تنشيط السياحة والوزارة بجهود حثيثة لجلب أفلام تصور في المكان وتروج له بتوجيهات سامية من جلالة الملك حفظه الله.