هناك في القرية رجلٌ: قصيرُ القامةِ، مَليحُ الوَجْه، ذو شَعْرٍ ناعم لا يُرسلُه، لديه سَيَّارة يَعْتني بها اعتناءَه بأولاده، بل يَكادُ يُقدِّمُها على زَوْجه وأَوْلادِه، فكانت لِحُسْنها مِلءَ عَيْنِ الرَّائي؛ إذا غَدَت رَمَقَها أهلُ القريَة، وإذا راحت حَيَّوْها بِمَا لم يُحيُّوا به أنفسَهم، وكأنَّها غادةٌ تَتأوَّد ومَيْساءُ تَميس.
وفي ذاتِ ربيعٍ عند عَصْرِ يَوْمِئذٍ، عَرَّفَها (زيَّنها) وجهَّزها لِسَفَرٍ، ثُمَّ اعْتَلاها كأنّها حصانٌ أَصيلٌ، يُناكفُه فارسٌ مِغْوار، ورَكبَ حِذاءَه شابٌّ طويل، فيه سُمْرةٌ لا تَخْلو مِن جَمال، ويُغطِّي مَسَاحةَ رأسِه شُعْرٌ أَسْودُ فاحِمٌ. ثُمَّ نَظَرَ إلى ابنِ أَخيه فتىً نَاهضًا يُحبُّه ويُقدّمُه كأنّه قِطْعةٌ منه، وقال له -وقد بَلَغَ أو لم يَبلغْ بَعْدُ-: اركبْ مَعَنا، فَرَكبَ مَزْهوًّا، ثُمَّ انطلقوا ثلاثتُهم والنّاسُ يَرقبونَ العَروسَ (السّيارة) في زَهْوِها ولَمَعانِها، ولم يُغادروا غيرَ قليلٍ حتَّى تَثاقَلَت فَتَوقَّفت، فقالَ له رفيقُ دَرْبِه: ما بها؟ فحارَ السّائقُ جوابًا، والفتى لا يَعْرفُ مِن أَمْرِها شيئًا.
عَلَت الجميعَ حيرةٌ، وهم في حَيْرتِهم، إذا بفتىً جَميلٍ، لَمْ يُكْملْ دراستَه، أَقبلَ عليهم ولا يُجاوزُ الثانيةَ عَشْرَةَ، يَعْرفونه ولا يَعْرفُهم، وتَنْظرُ إليه فَتَحْسبُه لِحُسْنه فتاةً في خِدْرها نُعُومةً وحَيَاءً، فَأَلقى التَّحيَّة وقال: دَعُوني أُساعِدْكُم؛ فلديَّ مَعْرفةٌ في السَّيَّارات وأّعْطالِها ومُشْكلاتِها. عايَنَ وشَخَّصَ، ثُمَّ أدارَ المُشغِّلَ فاسْتَجابَ، فَفرحوا وَصَفَّقوا له؛ لِمَعْرفته وخِفّة يَدَيْه ولُطْفه، ثُمَّ قَوْلِه: سِيرُوا على بَركةِ الله.
انطلقوا، وفي الطَّريقِ قال لفتاه، يُريدُ أنْ يُلفتَ انتباهه لِصُنع الولد: أَرَأيتَ إلى هذا الوَلَد يَصْغُرُك ويَتَصرَّفُ كأنَّه خبير؟ أتُراكَ تَعْرفُ مِثْله؟ فَصَمَتَ الفتى ثمَّ قال: هذا مُنذُ نُعومةِ أَظْفارِه وهو يَرْكبُ مَعَ والدِه ويُعلِّمُه كيف يَصْنعُ إذا عَرَضَ له عَارضٌ، وأنا لا أُصدِّقُ أَنَّني أَرْكبُ سَيَّارة، لأننا رَكبنا الخيلَ والبِغالَ والحَمير، فإذا سَأَلتني، فَاسْألني في لُغةِ الحَمير أُجِبْك بلا تَردُّد.
لم يُصدّق عَمُّه أنْ يُجيبَه بهذه الجُرْأةِ وهذا الفَهْمُ الذي لا يَعْرفُه فيه، لكنَّه ابتلعَ ريقَه وَانْطلقَ، ثمَّ انْتَحَى نَحْو مَحَطَّةٍ لتزويدِ الوَقود، فإذا بِوَلدٍ آخَرَ لا يَقلُّ انطلاقةً عن الأوَّل، فزوَّدَهم، ثمَّ انْطلَقوا، فقال لفتاه: وما تَقولُ في هذا؟
قال: صَحِبَهُ أبوه صغيرًا، ولم يُفْلحْ في تَعْليمه، فاختارَ له أنْ يكونَ هنا حيثُ تَرَوْنه؛ فقد سألته -وقد ذَهبتُما لِحَاجةٍ- عن الفَصْلِ الذي يَسْكنُ فيه، فَاسْتحيَا وقال: تَرَكتُ فَصْلي منذُ سَنَتين، ومِنْ ذلك وأنا هنا كنافِخِ الكِير؛ أَسْتنشقُ رَوائحَ تَزْكمُ الأُنُوف، ولَيْتني ظَلَلتُ مع أترابي في المَدْرسة، فإنَّ الكتابَ كبائِعِ المِسْك لا أَجدُ منه إلا ريحًا طَيِّبة. أمَّا نحن، فلم نَتْركْ فُصولَنا، ونُساعدُكم في الحِرَاثةِ والزِّراعَة، ونُزوِّدُ (البَقَّالاتِ) و(الدَّكاكينَ) في فَصْل الصَّيْفِ صُنُوفًا مِن خَيْراتِ الأرض، مِن بَقْلِها وقِثَّائِها وفُومِها وعَدَسِها وبَصَلِها، مِمَّا تُجودُ به الغَبْراءُ بعد غَوْثِ السَّماء.
هزَّ رأسَه وأدارَ مِقْودَه وانطلقوا إلى وِجْهَتِهِم، وعَرَفَ الفتى مِن حَديثِهم أنَّهم ذاهبونَ لزيارةِ رَجلٍ يَعْرفُه عَمُّه، وعنده فتاةٌ فارعَةُ الجَمَالِ على وَصْفه، كانَ أَخْبَرَ عنها عروسًا للشّابِّ الجالسِ حذاءه. وقبلَ وُصُولِهم، إذا بِهِم يُقْبلونَ على سُهُولٍ مُمْتدَّة، ضَرَبتِ شَمسُ السَّماءِ قبل غُروبها صَفْحَتَها، وَدَاعَبَ النَّسيمُ خَضْراءَها، وَرَتَعتِ الأغنامُ قُبيلَ رَواحِها في مَرَاعيها، وهناك شابٌّ يَكْبرُ فتاهم، اعْتَلَى مِحْراثًا (تراكتور) يُثيرُ الأرضَ، يَروحُ بِه ويَجيء، ويُسطِّرُ بِحَدائِدِه لَوْحةً مِن خُطوطِ الأرضِ تَسُرُّ النَّاظرينَ.
قالَ عَمُّه: وماذا عن هذا الذي يُعدُّ الأرضَ لحياةٍ جديدة؟
قال: هذا أَجْملُ من سابِقَيْه، وتبدو فيه روحٌ وَثّابةٌ، وقد أقبلَ إلينا، فلمّا استوى قُبالَتَهم حَيّاهم وحَيَّوه، فقال له الصّغير: شَدَّكَ اللهُ بالعافية، وأعانكَ على إتمامِ العَمَل، ويَبْدو أنّكَ مُرْهفُ الإحْسَاسِ بِمَا تُسَطّره من رَسْمِك الفائق هذا، وما تَخُطُّه بِحَديدتك صُورةٌ مِن صُوَر الحياةِ الجَميلة. فأجابَهم: نَعَم. أنا أُعْنَى بالفنِّ هِوايةً، وما تَراه مِمَّا يَروقُك، أُحاولُ أنْ أَجْمعَ فيه بين نَموذجَيْنِ: نَموذجِ الفلَّاح ببساطته يُغازلُ أًرْضَه فتطاوعُه، ويأتيها يومَ الحَصاد رَيَّانةً تتهادى، ونَموذجِ الشَّابِّ الطَّموح الذي يَرْنو لحياةٍ جديدةٍ، تَتَجاوزُ البَسَاطة ولا تَخْلو مِن عُنْفوان.