ربما صار لزاما على الجسم الإعلامي أخذ المبادرة لصياغة مدونة سلوك ذاتية تحدّد أسس التعاطي مع الحكومة, مجلس الأمّة والقضاء, بدلا من انتظار تلك الأطراف لفرض قواعد الاشتباك مع الإعلام.
تعليق الجرس قد يكون مسؤولية الفئة الحريصة على الاستقلالية المهنية والأخلاقية وصدقيتها في عصر النفاق والتزلف.
وتزداد ضرورة تحصين الحق في التعبير, التحليل وتنوير المجتمع بهدف تفعيل مبدأ المراقبة والمحاسبة, في ضوء حل (أو تغييب) مجلس النواب قبل شهرين. في ضوء هذه الأجواء, يتعاظم الحمل على الجزيئية المخالفة للتيار العريض من "إعلام مرعوب" كي تمارس حق الرقابة أمام حكومة تتصرف بحرية مطلقة في غياب معارضة سياسية ومجتمع مدني فاعل ومؤثر.
فهل يعقل أن تواصل حكومة سمير الرفاعي, كغالبية سابقاتها, الشكوى من ظاهرة "الطخ" ضدّها, وتخوين كتّاب وصحافيين بدعوى وجود أهداف كامنة مفترضة وراء شغب الأقلام تستهدف "تلطيخ السمعة وإرباك المحرّك الحكومي".
كما من المستغرب استمرار مسؤولين في فحص نوايا كل إعلامي للتأكد من خلو مقالة, كاريكاتور أو لقطة فوتوغرافية من إيحاءات ونوايا شريرة لدى من يقف خلفها. فالاتهامات جاهزة وأيضا مسلسل التشكيك والتخوين بأنهم من "زلم" فلان أو علتان" من أصحاب الدولة وجر.
الاعلاميون, بخاصة كتّاب الرأي ممن يحترمون مهنتهم المقدسة ويلتزمون بأدبياتها وأخلاقياتها, ينحازون للوطن وهمومه, لا ل"س" أو "ص" من المسؤولين الذين يأتون ويذهبون, بينما يبقى قلمهم ثابتا على المبادئ.
بغض النظر عن أقلية قد تلجأ لأساليب غير أخلاقية قادرة على تقمص الأدوار ومحاباة المسؤول ضمن مهمات "التدخل السريع", يفترض أن ينطلق من اختار مهنة المتاعب من حرص وطني عميق على الإصلاح والتصويب. فالكمال لله وحده, ومن حقهم كشف المستور بموضوعية, دقة وتوثيق بما يعكس الرأي والرأي الآخر.
الوطن للجميع; لكل من يحمل رقما وطنيا. فكل منا يدفع ضريبة الوطن من خلال العمل الذي يقوم فيه.
هل من المعقول أن يمر مرور الكرام تصريح وزير الدولة للشؤون البرلمانية توفيق كريشان قبل أيام بأن الانتخابات النيابية القادمة ستتم على أساس الصوت الواحد مع تعديلات على الإجراءات "لأن العيب فيها وليس في القانون".
وهل من المعقول عدم إجراء حوار وطني حول شأن مهم آخر يتعلق بخطط إصدار أزيد من 35 قانونا مؤقتا هذا العام, ما يذكر بقوانين حكومة علي أبو الراغب ال¯ 218 في غياب المجلس النيابي (2000-2003),
هل سيكون النقد الإعلامي لهذا لإجراء من وحي الدستور, الذي يشترط استصدار قوانين مؤقتة حصرا بظروف قاهرة على أن تعرض على مجلس الأمّة حال التئامه, أم يندرج ضمن باب تسديد حسابات عبيد مع زيد؟
المطلوب مدونة سلوك تحدّد علاقة الصحافي بالمسؤول, تشرح له كل ما يتعلق بالإعلام وحق الصحافي في ممارسة الشك والمساءلة في أجواء تتيح تدفق المعلومات.
فحرية التعبير والكتابة وإبداء الرأي حق مصان يخدم الحكومة أولا وأخيرا, عندما يكشف للمسؤول الكثير من المستور, وعندما يدله على مواطن الخلل والشبهة, وعندما يسهم في ترشيد الأداء وعقلنة القرارات عبر التدقيق في مختلف جوانب الموضوعات قبل اتخاذها.
مدونة كهذه ضرورية لقطع الطريق على أصوات رسمية متنفذة تلوم الإعلام عند وقوع أي أزمة مهما صغر حجمها, أو تطالب في اجتماعاتها المغلقة بلجم ما تبقى من أجواء الحريات الصحافية وتهميش الأدوار السياسية المختلفة لتطويع المشهد المحلي. تفضّل هذه الفئة أن يتحول الشعب إلى 6.2 مليون صنم لا يرى, لا يسمع ولا ينطق, بينما يدعّي المتنفذون بحماية حقوق الناس ومصالحهم.
هذه الأصوات استعادت حضورها التي تجمع النقيضين - كوكتيل من الشخصيات السياسية المحافظة والمجربّة وتكنوقراط غير مسيّس لا يبدي رأيا.
بعض هذه الأصوات المتشددة يرى أن الأردن سيحتاج لخمس سنوات على الأقل للقضاء على كوّة فتحت هنا وهناك في جدار الإعلام مع اشتداد الصراع بين شخصيات سياسية تمثّل مدارس سياسية متناقضة تحكمت بمفاصل أساسية في الحكم قبل رحيلها منتصف .2008
أصوات مقابلة تعتقد أن ما يتوافر من حريات إعلامية قليلة قد يسهم في إشعال فتيل أزمة تحاكي ما حصل منتصف السبعينيات في لبنان, في حال ترك الحبل على الجرّار. لذا تعتقد أن لا داعي للمغامرة لتعزيز الحريات الإعلامية على حساب الوحدة الوطنية الهشّة ومستقبل البلاد والعباد.
تيار ثالث, بما فيه المدرسة الليبرالية الاقتصادية, يعتقد أن الإعلام كان وراء افشال الأجندة الوطنية (2005) ورؤية التحديث الملكي, بسبب تخندق بعض كتاب الرأي ضد جهد التحديث.
في بال آخرين تجربة الانغلاق "الألبانية". فهم يتمنون إعادة عقارب الساعة إلى حقبة الإعلام الشمولي الموجه للسيطرة على عقول الناس. على أن ذلك الحلم بعيد المنال في عصر ثورة المعلومات التي كسرت هذا الاحتكار إلى الأبد.
مسكين الإعلام إذ يتحمّل وزر أخطاء الآخرين, ويبقى الشمّاعة الأسلم لتبرير الفشل الناجم عن تضارب الرؤية وغياب استراتيجية واضحة لمراكز القوى.
تتماشى الدعوة لمدونة سلوك ذاتية مع "عصر المدونات" الذي دشنتّه الحكومة. فهناك مدونة تضبط إيقاع مهام الوزراء, وأخرى حول تعامل الحكومة مع الإعلام, بما فيها سلاح الاشتراكات والإعلانات للتأثير على وسائل الإعلام "المشاغبة". وهناك مدونات مرتقبة من بينها رسم العلاقة بين الحكومة ومجلس الأمّة.
مدونة "حقوق الإعلاميين" يجب أن تضع أسسا لحق النقد ضمن الهوامش التي يوفرها الدستور. كما عليها المطالبة بتحرير الإعلام من القيود القانونية المفروضة كالسيف المسلط على الرقاب, وإلغاء غالبية المحظورات في قانون المطبوعات والنشر - باستثناء بنود تتعلق بحصانة أفراد العائلة المالكة, أو تلك التي تمنع العصبية الدينية والطائفية. باختصار, نريد مدونة تحدد دوافع اللجوء للمحكمة وتحمي من التشهير, اغتيال الشخصية والافتراء كما تطالب باستقلالية الصحف ماليا وإداريا.
بدون ناقوس الإعلام ستجري المياه تحت السطح وتهدّد أساسات وطن يشعر أبناؤه بإحباط وتغريب.
في القرن الواحد والعشرين, تفتقر الحكومة ل¯ "مطبخ إعلامي« فاعل يعيد الاعتبار لدور الإعلام الحكومي والرسمي, ويملأ الفراغ الحالي مع الرأي العام.
لغاية اليوم, ما يزال المسؤولون غير قادرين على صناعة خطاب إعلامي رسمي متماسك يقدم موقفا واضحا معززا بمعلومات دقيقة. ولمواجهة الاتهامات يتمترسون خلف لوم الإعلام.
حتى الآن تبقى أسئلة كثيرة بدون إجابة; منها:
- أسس الاقتصاد الأردني واتجاهاته قبل التفكير في التعامل مع التحديّات البنيوية مثل البطالة والفقر؟ وما هي الآليات المطلوبة لربط النمو الاقتصادي بالديمقراطية وحرية الرأي مثلا؟
- من يتحمل مسؤولية من أوصل البلاد إلى هذا المستوى المرعب من عجز في الموازنة وتفاقم الدين العام بعد عقدين على بدء الإصلاحات الاقتصادية والمالية؟ ولماذا لم تتم محاسبتهم؟
- كيف صرفت هذه الأموال وعلى ماذا؟
- من يدفع ثمن مأساة تلفزيون إيه تي في والملايين المهدورة في مشروع معلّق منذ عامين ويزيد بدون إجابات واضحة وإجراءات شفافة؟
- هل هناك إرادة حقيقية للدفع صوب إصلاح سياسي قائم على تغيير جوهر قانون الانتخابات لضمان مجلس نيابي ذي وزن سياسي وقاعدة تمثيلية أوسع لدافعي الضرائب بغض النظر عن أصلهم وفصلهم؟
- هل نريد تطبيق المساواة أمام القانون وسيادته على الجميع بلا استثناءات والتفافات؟
- هل تفيد عملية تدوير النخبة السياسية.
- ماذا استفدنا من تأميم المسارات السياسية الداخلية ومن تراجع الحريات الإعلامية والسياسية؟
المسافة شاسعة بين الشعارات البرّاقة وعقلية الفزعات والدوران حول الذات التي تمارسها السلطة.
يبدو أن السلطة اختارت الانغلاق وسط تضارب في الرؤى, أو لأن مسؤولين يخشون إبداء رأي خارج النص. ذلك أن غالبيتهم لا تؤمن بالتراكمية والبناء على الانجازات.
أما الإعلام فمن واجبه تسليط الضوء على الإخفاقات والانجازات بهدف الإصلاح وتصويب المسيرة.0
rana.sabbagh@alarabalyawm.net
العرب اليوم