في عيادته التي تتكئ على كتف جبل عمان و في شارع لا يعرف الهدوء إلا في ساعات الليل ؛ لكثرة مرتاديه من طالبي المداواة من العلل و الأسقام ، زرته أول مرة و للحظة و بمجرد السلام عليه و التعارف إليه شعرت أنني أعرف الرجل منذ سنين ؛ لما في بحة صوته من إيقاع الحب و الصدق و لما فيه من صدق يعز علينا رؤيته اليوم في زمن لم يعد لمعجم الصدق من وجود إلا في النادر من الرجال ، يحدثك ببساطة و عفوية دون تكلف ممجوج و لا ترفع غير محمود ، و يأسر عقلك و قلبك بانسيابية و هدوء و إن علت نبرة صوته أحياناً ليس من غضب و لكن عفوية زانت حضوره و زيّنت انفعالاته الجميلة !.
يحمل في ذاكرته البعيدة صوراً جميلة لزمن طفولته و يُتمه الأول و هل لليتم جمال ؟، نعم حينما يتحول محيطك من مشفق عليك إلى محب يبحث في أشياء ياسين الصغيرات عن الضحكة و سرها و عن البسمة و جوهرها في كنف والدته رحمها الله و أخواله من آل طيفور ، يكبر الفتى بين يدي والدته التي رأت فيه حلمها و زهرة أيامها ، يكبر على ذراعيها ، تقيسه على قانون قلبها الكبير و إيقاع حلمها البعيد " كل شبر بنذر " ، ترى فيه والده الشهيد الذي لم يمهله الردى إلا كظل رمح عند الغروب ، و قد غادر الدنيا و ياسين لم يزل في أحشائها ، و لم يبصر الدنيا بعد !.
تعلم ياسين في مدرسة القرية و في بيت يحرص على العلم و تعلمه و على الجد و ركوب الصعب منه ، و يغادر قريته في عجلون ليلتحق بالمدرسة في إربد ،إذ إنها للعلم ديوان و للمثابرة عنوان ، و فيها ينهي ياسين مرحلته الثانوية و عندها كان لوالدته رأي وازن و رباطة جأش بادية نادرة ؛ إذ ترسل ابنها لدراسة الطب في تركيا و يسانده في هذه الرحلة الصعبه عمه إبراهيم الصايل ، رحمه الله ، ليعود ياسين و قد أنهى دراسته في نهاية الستينيات !.
و عندما بدأت رحلة البحث عن العمل فقد عادت به الذكريات لمدارج السالكين من أصحاب أبيه و من أهمهم وصفي التل ، الذي وجّه الدكتور عبدالسلام المجالي لتعيينه في الخدمات الطبية الملكية و عندئذ بدأ المشوار الطويل في طلب العلم المهني و الطبي و العسكري و ليمر في درب طويل من المحطات المهنية و العملية لينتهي به التطواف ما بين عمان و لندن و أمريكا، باحثاً عن الجديد في تخصصه و ميدان طب الأسنان ، إلى الإحالة على التقاعد بعد ثلاثين سنة من خدمة الشعار في جيشنا الأردني ، ليأتي وزيراً للصحة في عام٢٠١١، و لكنه عاد بعد خروجه من الحكومة لعيادته التي أضحت محجاً لكل طالب علاج و منتدىً لرجال طيبين و وطنيين من مشارب مختلفة من وزراء و رؤساء حكومات و أعيان و فرسان متقاعدين عرفوا ياسين فأحبوه و لا أبالغ إذ قلت إنه خليفة وصفي التل رجولة و فكراً و حباً لوطنه !.
أعود مرة أخرى لياسين الإنسان الذي عاش ناسكاً في محراب العطاء ، يكفل أيتاماً و يبني مدرسة وقفاً خيرياً ؛ يتعلم فيها أبناء المفرق ، و يبني قبلها مسجداً براً بوالدته التي تعبت و ما خسرت فقد أنجبت فارساً أردنيًا و رجلاً صادقاً مع نفسه و وطنه و أهله من الأردنيين القابضين على جمر العروبة و الصدق و الرجولة !.
ياسين الحسبان سيرة جميلة بكل تفاصيلها و مفاصلها من عجلون لتركيا و من عمان إلى لندن ، ظل وفياً لمبدأ الأردني الشريف رسالة جسّدها في سلوكه و حملها في البوادي و الأرياف و من الشمال إلى الجنوب يداوي و يمسح على جبين اليتيم و السائل و المحروم ، هذا ياسين كما عرفته !.