الفقر في الوطن غربة .. والغنى في الغربة وطن ..
د. دانييلا القرعان
28-07-2020 08:46 PM
رائعة من روائع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب _ كرم الله وجهه_ حيث وضع الإمام علي يده على السبب الحقيقي للشعور بالإغتراب وجعلها المقياس الواقعي لهذا الأمر... وهي الحالة الإقتصادية للإفراد، فالحاجة وربما فقدان الأمن والأمان الإقتصادي والمعيشي الأنسب كفيل بتسرب الشعور بالإغتراب وإن كان الإنسان بين داره وبين أهله!! وتوفير حاجات الإنسان الإقتصادية هي الكفيلة بتسرب شعور المواطنة وتعزيزه.مقياس أمير المؤمنين الحقيقة والوعي هو المقياس الواقعي والصائب وما عداه محاوله لتزييف الحقيقة والوعي وما أكثر الغرباء في هذا الوطن على مقياس أمير المؤمنين..
ما محتوى هذا الكلام: "الغنى في الغربة وطن.. والفقر في الوطن غربة"،عندما تحدث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب_ كرم الله وجهه_ إن الغنى في الغربة وطن والفقر في الوطن غربة نلاحظ إن هذه المقولة والتي اختصرت الكثير تتحدث عن السلوك المرتبط ببيئة الإنسان،وأن الله تعالى أوضح بجلاء أن الأرض جميعاً لله تعالى،وندب الناس إلى أن يسيحوا في الأرض؛بغية استمرارية عيشهم، فقال الله تعالى« فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه».إن الرزق هو المادة التي يستطيع بواسطتها الإنسان مواصلة عمله الخلافي أو العبادي، ومن هنا أمرنا بتحصيله وفي ذلك السعي في الأرض وتحقيق ما يستطيع إليه الإنسان من وراء ذلك، أن الإنسان ليطلب الغنى أي ما يكفيه وليس تضخيم دخله الفردي ويتهرب من الفقر أي الفقر المدقع الذي يحجزه عن مواصلة عمله العبادي وليس الفقر العادي، وفي ضوء ذلك نلاحظ أن ما جاء به الإمام علي _ كرم الله وجهه_ يشير إلى حقيقة وهي أساس هذا المقال أن الوطن الحقيقي للإنسان ليس هو تشبته بأرض خاصة يتخذها سكناً، بل الوطن هو ما يحقق الشخصية الإنسانية تمكّنها من تحصيل الرزق الذي تعتمد عليه في استمرارية ممارستها العمل العبادي وإلا فإن الوطن لا يتحدد في المفهوم الجغرافي الذي اعتاد المجتمع العلماني على تسميته،ونلاحظ أن الإمام علي كرم الله وجهه قدّم صورة تمثيلية لمفهوم الوطن هو: الغنى والفقر بحيث يتحقق الغنى يتحقق الوطن حقيقة، وحين يعم الفقر لا وطن للإنسان.
(الغنى في الغربة وطن والفقر في الوطن غربة)، هاتان عبارتان صوريتان تمثيليتان تنطويان على أسرار بلاغية فائقة التصور، الوطن لغة هو: محل السكن ولا بدَّ من محل السكن الإقامة واستمرارها فإذا لم تتحقق الاستمرارية فلا وطن، ولا تتحق الاستمرارية إلا من خلال التمكن المادي المتمثل في حصول الرزق، ولذلك فإن الحاصل على الرزق يمتلك وطناً حتى لو عاش بين الغرباء، والعكس هو الصحيح فمن الممكن أن يحيا الإنسان بين أصحابه وأقاربه والمواطنين جميعاً ولكنه لا مكنه ماديه لديه حينئذٍ فإنه غريب بين هؤلاء الذين يحيا بينهم،والسبب واضح هو: عدم إمكانية الاستقرار واستمراية العيش بين قومه، أنه غريب بينهم لأنه فاقد لمتطلبات المواطنة ألا وهي استمرارية العيش.
الفقر في الوطن غربة والغنى في الغربة وطن، نلاحظ أن القدر الذي ترسخه صدقية هاتين العبارتين وانسجامهما مع الواقع بالقدر الذي بات فيه الوطن مجرد حقيبة سفر يحمله الأشخاص أينما حلوا لمجرد الذكرى،في الحقيقة ليس الفقر وحده الذي يجعلنا نشعر بالغربة حتى وإن كنا داخل منازلنا وبين أقرب وأحب الناس إلينا بل أن هنالك الكثير من الأشياء التي تدفعنا دفعاً قوياً لأن نبحث عن مكان لنسكن فيه،مكان نشعر فيه بالأمان والاستقرار والدفء.
في الجزء الأول من حكمة الإمام علي كرم الله وجهه " الغنى في الغربة وطن" تكّرس حقيقة الإنتماء القسري للملاذ الآمن.. وفي الجزء الثاني " الفقر في الوطن غربة" البحث عن وطن تحب أن تعيش فيه ورغم أن الوطن مسقط النبض الأول وأكبر من أن يكون مجرد ذكرى، إلا أن الغربة تبقى بالنسبة للبعض أفضل كثيراً من العيش في ظل وطن يسكنه الفساد والاستبداد والمحسوبية بكافة صورها، الفساد الذي استشرى حتى النخاع، ومع فقدان الأمان والأمن الوطني والمعيشي والمستوى المناسب للإنسان وكرامته، بات الجميع يبحث عن الراحة المادية والمعنوية له ولأسرته بعيداً عن وطنه ليفنى وتُفنى معه أسرته وكأنه مجبراً على ترك وطنه الذي ترعرع فيه.
وفي كل الأحوال فإن الشعوب المنكوبة والمغلوبة على أمرها هي التي تشعر بالغربة في وطنها، فهي حبيسة سياسة قمعت كل شيء، قمعت حرية التعبير، حتى لقمة العيش لم تسلم من القمع، وخبيات البحث عن وطن بديل من أجل لقمة العيش أفضل بكثير من التمسك بحنين ممتلئ بالأوجاع والذل والقهر داخل الوطن الأصلي.
وبما أن الفقر لا يجب اختزاله فقط في الجانب المادي المتمثل في توفير العمل والعيش الكريم والسكن والتعليم والصحة وغير ذلك بل يتعداه إلى الجانب المعنوي المتمثل في الكرامة الإنسانية والمساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين وتكافؤ الفرص الوظيفية والحياتية والعدل بحيث يصبح الناس متساوين،بات المكان الذي يؤمن القليل من هذه المتطلبات هو الوطن الآخر الذي أصبح يتمناه الكثيرون ويسعى وراءه آلاف حتى وإن كانت النتيجة الموت غرقاً في البحر أو اعتقالاً عند أحد المرافئ.
أن تموت في بلاد الغربة وأن تموت في حضن الوطن النتيجة واحدة، ولكن الفرق هو ما يحصده ذوو الضحايا أما الباقون خلفه بإنتظار غائب طالت غربته ولكنه لم يعود أبدا.
صحيح أن الوطن أكبر من يُحمل في حقيبة والإنتماء أقوى من أن يكون مجرد ذكريات وشعارات أو حتى جواز سفر،ولكن عندما يفر المرء بروحه من وطن ضاعت فيه الكرامة وفقدت فيه البوصلة تكون الهجره هي الحل حتى وإن كان الغرق أحد النتائج المتوقعة.
"الفقر في الوطن أم الغنى في الغربة"، أيهما أفضل أن تعيش في وطننا فقراء على أن تكون مع أهلنا ووسط أحبتنا وناسنا وفي المكان الذي ولدنا فيه وترعرعنا بداخله، أم أن نكون مغتنين في الغربة حيث لقمة عيشنا وعيش اولادنا حتى لو لم يكن هنالك أهل وخلاّن وذكريات وحضن ووطن؟
ليس من إنسان إلا ويحب وطنه والأرض التي فيها نشأ وترعرع حيث الأهل والأصحاب والخلّان والذكريات وحيث دفء المشاعر والعلاقات وليس من أحد يرغب في أن يعيش صقيع الغربة وسط قوم لا يعرفهم ولا يعرفونه ولا يجمعه بهم رابط من تاريخ أو جغرافيا أو عبق ماضٍ وذكريات، فحب الوطن من الفطرة التي فطر عليها الإنسان منذ ولادته،وليس أدل على ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي عبّر عن شديد حبه لبلده مكة وقال لها عندما خرج منها مهاجراً " والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض إليَّ،ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت".
ليس من إشكال في أن يحب الإنسان وطنه ويتعلق به، طالما يعيش في ربوعه من الأمن والأمان والكرامة والاغتناء ولكن ماذا لو كان الإنسان فقيراً لا يقدر أن يؤمن قوت يومه وقوت عياله، ولم يكن هذا الوطن ييسّر له مستلزمات العيش الكريم ولا يفتح له المجال في الترقّي والانتقال من حال الفقر والعوز إلى حال الاكتفاء على الأقل؟ هل يبقى يتغّزل بالوطن ويمجّد الأرض التي وُلِدَ فيها ويتمسك بها مكاناً للعيش رافضاً الانتقال إلى أي بلد آخر يتيح له مجال الخروج من فقره وعوزه حاصراً نفسه في وهمٍ مثالي بعيداً عن الواقع؟.
إن الوطن في مثل هذه الحالة يصبح منفى وسجناً وقيداً وتصبح الغربة بحد ذاتها بصقيعها وكآبتها لأن يسلب من الإنسان إحساسه بالأمان والاستقرار ويجعله يعيش هاجس الحصول على ما يسدُّ به عوزه وفقره وتصبح الغربة وطناً،اذا استطاع أن يؤمن فيها رزقه بكرامه وأن يحيا مغتنياً مكتفياً هو وعائلته.
هذا ما قاله أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه وهو يعبر عن معنى الوطن الحقيقي والغربة الحقيقية ويقدم صوره واقعيه لمعنى الوطن "الغنى في الغربة وطن والفقر في الوطن غربة" وهو القائل أيضا " ليس بلد أولى بك من بلد خير البلاد ما حملك" بل قد يجب على الإنسان أحياناً أن يهاجر ويتغّرب اذا كان في ذلك انتشال له من دائرة العوز، والقرآن الكريم يقول: « هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور».
واذا كان هذا هو المقياس الذي نحدد به الغربة والوطن فبالله كم كثير من الغرباء في بلداننا! وكم من أرض كانت بالأمس غريبة احتضنت المهاجرين إليها وغدت لهم الستر والغطاء والوطن!.
"ماذا تفضل جنة الغربة أم جحيم الوطن؟"،مشكلة يعاني منها معظم الشباب العربي عندما تقسو عليه الحياه ويضطر إلى السفر إلى الخارج في محاولة الحصول على فرص أفضل للعيش، عندما أتحدث عن هذا الكلام أتحدث عنه وأعي ما أعنيه، سواء في ظل جائحة كورونا الحالية ام قبل هذه الجائحة، حيث نلاحظ أن هذا الوباء العالمي زاد من الفقر والعوز وتعالت الأصوات للمطالبة بدعم الخبز ودعم عمال المياومة الذين لا يمتلكون قوت يومهم وقوت عيالهم ومساعدة من لا عون له، فالوضع القائم كما لو كان قبل الجائحة، الجميع يهربون للخارج بحثاً عن الغنى في وطن بديل لهم ولكن هذه الجائحة منعت تحركاتهم وتنقلاتهم وسفرهم فانحصرت آلامهم وأوجاعهم داخل غربة وطنهم منتظرين أمل أن ينتهي هذا الوباء سريعاً ويعودون إلى سفرهم ووطنهم البديل حيث السعادة والكرامة والاستقرار والغنى.
الغربة... هي كلمة ربما يرددها معظم الشباب من دون أن يعوا معناها الصحيح، فالغربة تكمن في صفحاتها الآلم والحزن والفراق والابتعاد عن الأهل وتحمل الإهانة، ولكن يا ترى ما هي أسباب الغربة التي تدفع الشخص لترك بلده وأهله وكل ما يهتم بشأنهم والسفر والغربة والترحال؟ سؤال تردد في فكري ولم أدري ما هي الأسباب حتى رست بي أفكاري إلى أن هنالك عدة أسباب تدفع الإنسان للغربة أسباب داخلية وهي عندما تتحطم آمال الفرد ويشعر بالقهر عندما لا يستطيع تحقيق آماله وطموحاته ما كان يصبو إليه فيدفعه حزنه وقهره إلى التفكير بالغربة والسفر إلى الخارج عسى أن يحقق ما فشل في تحقيقه في بلده ومنهم من يعتري لإيجاد مكان مناسب للعيش هرباً من الحروب والمجاعات، وآخرين يغتربون للبحث عن شخص ما في بلد المهجر والغربة،وآخرين يغتربون في محاولة لكسر الروتين اليومي وعيش حياة جديدة، أما الأسباب الخارجية تتمثل في غياب الدعم المادي والمعنوي من قبل الأهل والدولة في توفير فرص العمل للمتعلمين،وبالمقابل أن بلد المهجر والغربة ترحب بالمؤهلين والبارعين والمبدعين لأنهم يعرفون أنه سيفيدهم في
الكثير والكثير.
بالنسبة للآثار المترتبة على الغربة فراق الأهل والأصحاب والأحبة بالنسبة للفرد وغياب قوادر متميزة ومبدعة في مجالات مختلفة بالنسبة للبلد والاندماج في الهوية في بلاد المهجر وهنالك الكثير من الآثار المترتبة على ذلك.
في نهاية المطاف أختار جحيم الوطن ولا أغدر لوطني وفيه تربيت وترعرعت ونشأت فيه وعشت فيه وهو الذي رباني وكبرني ورعاني وعلمني وواجبي حمايته والدفاع عنه على أن أختر جنة الغربة وفيها غربة روحي ونفسي وذاتي وكياني وهويتي وأصلي.