مِن مَحَاسِنِ ابنِ خَلِّكان
د. يوسف عبدالله الجوارنة
28-07-2020 03:53 PM
ابن خَلِّكان: هو قاضي القُضاة، شمسُ الدّين، أبو العبّاس أحمد بن محمّد بن إبراهيم، البرمكيّ الإربليّ الشّافعيّ (ت681هـ). وقد جعله من تَرجموا له في المكانة التي يستحقّها، فقد عَدّه الذّهبيّ (748هـ) من سَرَوات الناس، أي: أشرافهم، قال في "تاريخ الإسلام": "كان إمامًا ، فاضلًا، مُتقنًا، عارفًا بالمذهب، حَسَن الفتاوى، جَيِّد القريحة، بصيرًا بالعربيَّة، عَلّامةً في الأدب والشِّعر وأيَّام النّاس، كثيرَ الاطّلاع، حُلوَ المُذاكرة، وافرَ الحُرْمة، كريمًا، جوادًا، مُمَدّحًا". وهو من صُدور الرّؤساء عند ابن كثير (774هـ)، قال في "البداية والنّهاية": "أحدُ الأئمَّة الفُضلاء، والسَّادةِ العُلماءِ، والصُّدورِ الرُّؤساء".
ترك ابن خلّكان كتابًا وحيدًا لم يُنْجب غيره على حدّ الشّيخ عبد السّلام هارون، ذلكم سِفْره النَّفيس "وَفَيات الأعيان وأَنْباء أَبْناء الزَّمان"، وهو كتابٌ له قدحٌ مُعلّى بين كتب التّراجم قبله وبعده، ولعلّ علوّ كَعْبه في علوم الشّريعة، ودقّته في مسائل القضاء، جعلا منه عَلَمًا ثَبْتًا ضابطًا. لذلك، فلا غَرْو أنْ يَكون مُقدّمًا عند أئمّة هذا الشّأن؛ فهو "كتاب جليل" عند التّاج السّبكيّ (771هـ) في طبقاته، و"بلغ من الشّهرة مبلغًا لا مَزيد عليه" عند المقريزيّ (845هـ) في تاريخه "المُقفّى الكبير"، وهو "كتاب نفيس اقتصر فيه على المَشْهورين مِن كلِّ فنّ" عند ابن قاضي شُهبة (851هـ) في طبقاته، وقال ابن تغري بردي (874هـ) في "المَنْهل الصَّافي والمُسْتوفى بعد الوافي": "وتاريخه مشهور، فِي غاية الحسن"، وهو " أَحْسنُ ما صَنَّف، ويدلّ على سعة اطّلاعه وكثرة فضائله" عند حاجي خليفة (1067هـ) في "سلّم الوصول إلى طبقات الفحول"، وجعله الزّركليّ (1976م) في "الأعلام"، "أشهر كتب التراجم ومِن أحسنها ضبطًا وإحكامًا".
ولابن خلّكان أحوال كثيرة نَثَرها في كتابه، أشار إلى ذلك الإسنويّ (772هـ) في طبقاته، قال في ترجمته: "وقد أَوْضحَ هو حالَه في تاريخه مُفرّقًا في مَواضع"، وهذه المسألة وَقفَ عليها الشّيخ محمّد محيي الدّين، إذْ أشار إليها في مقدّمة تحقيق "الوفيات" الذي أصدره سنة 1948م، قال الشيخ هارون في كتابه "معجم مُقيّدات ابن خلّكان" مشيرًا إلى صنيع الشّيخ عبد الحميد: "وهذه الطّبعة تَمْتاز بمقدّمة نَفيسة، كانَ مِن أَبْرع ما قَرّره فيها أنّه أَحْصى أكثر من مائتي مَوْضع، تَعرّض فيها ابن خلّكان في أثناء تاريخه الذي بناه على الأشخاص، ولم يَبْنه على الحوادث، تَعرّض في كلّ مَوْضع منها لِذِكْر أَمْرٍ يَتعلّق بحياته الذاتيَّة". وليته –رحمه الله- أصدرها سيرة أدبيَّة تُنْبئ عن مكنون هذا العلم الكبير ودفائنه الحميدة.
ومن أحواله قولُ ابن العماد(1089هـ) في "الشّذرات": "مِن مَحاسنه أنَّه كان لا يَجْسرُ أحدٌ أنْ يَذْكرَ أحدًا عنده بغيبة". ومن ذلك تَورُّعه عن ذِكْر العَورات والفاحش البذيء، وأذكر هنا مَوْضعين من مَواضع أحواله، كنتُ لحظتهما وأنا أقرأ تَرْجمته للشّاعر الكوفيّ حمّاد عَجْرد (161هـ)، وكانت بينه وبين الشّاعر بشّار بن بُرد (168هـ) ضَغائن وإحن، قال ابن خلّكان: "وهو من الشُّعراء المُجيدين، وبينه وبين بَشّار بن بُرْد أَهاجٍ فاحشةٌ، وله في بَشّار كلُّ معنىً غريب، ولولا فُحْشُها لذكرتُ شيئًا منها".
أمّا الموضع الآخر، فقد كانت بين حَمّاد عَجْرد وأحد الأعيان صحبة ٌفيها طرائفُ ومُلَح، ثمّ تَجافيا بعد تَنسّك صاحبه، قال ابن عساكر (571هـ) في "تاريخ دمشق": كان حَمَّاد عَجْرد صديقًا لرجلٍ أيَّام شبابِه، فلمَّا تَنَسَّك ذلك الرَّجل وتَفقَّه صار يَقعُ فيه ويَنْتقصُه". وفي هذه الحادثة قال ابن خلّكان وهو يُترجم لعجرد –متورّعًا-: "يُحكى أنّه كانت بينه وبين أحد الأئمَّة الكبار -وما يليقُ التَّصْريحُ بذكر اسمه- مَودة، ثم تقاطعا، وبلغه عنه أنَّه يتنقصه، فكتب إليه (مجزوء الكامل):
إنْ كانَ نُسْككَ لا يَتمُّ بِغير شَتْمي وانتقاصي
فاقعدْ وقُم بي كيفَ شئتَ مع الأداني والأقاصي
فلطالما زَكَّيْتني وأنا المُصرُّ على المَعاصي
أيَّامَ نأخذُها ونُعْطي في أباريق الرَّصاص
وقد ذكر الحادثةَ الأصفهانيُّ (354هـ) في "الأغاني" وحدّد الشّخصيّة، وهي من أعيان الفقهاء في القرن الثاني الهجري. وذكرها ياقوت (626هـ) في "معجم الأدباء"، وابنُ عساكر في تاريخه، ولم يشيرا إليها. أما ابنُ قتيبة (276هـ) في "الشّعر والشّعراء"، وابنُ المعتز (299هـ) في طبقاته، والخطيبُ (463هـ) في تاريخه، والذّهبيّ (748هـ) في السّير، وابنُ أيبك (764هـ) في "الوافي بالوفيات"، وابنُ حجر (852هـ) في "لسان الميزان"، فلم يذكروها ألبتّة.
قال ابن خلّكان: "ولولا فُحْشُها لذكرتُ شيئًا منها"، وقال: "وما يليقُ التَّصْريحُ بذكر اسمه".
قلت: هذه ظاهرةٌ حسنةٌ يَحْسنُ بأساطين العلم اليوم، وأساتذة الجامعات، والباحثين والمفكّرين أنْ يتأمّلوها، وهم يَرون أنفسهم في مكانٍ عَليٍّ لا يليقُ بأحدٍ غيرهم، ظنًّا منهم أنّهم حازوا سبقًا هم جَديرون به! ولا ضيرَ إذا كانَ ذلك –والله أعلم بما هنالك- على أُصُوله، ومِن مَشاربه؛ يَبْتعدون فيه عن كلِّ نَقيصةٍ تَهْوي بهم في مُسْتنقع الضّلالة والوَهْم، ويُولّون وُجوههم شَطْر مَحاسن الأخلاق ومَرابع الفضيلة؛ فإذا كان كذلك، فأنعم بهم وأكرم!