لعمّان رائحة!
تشمّها وأنت هناك، في أعالي الجبال، كأنما عالقة بثيابك، أو.. لعمّان رائحتان: واحدة في الصبحِ؛ حين تخرج للشارع والندى يلمع على طرف الرصيف وأبواب البيوت وأوراق الشجر، تحسّها رائحة شمسٍ ما تزال نيئة، أو رائحة وردٍ يتهيأ للعمل!
رائحة فجرٍ خفيف.. تحسّ كأنما تقطفه بيدك، أو هو فجرٌ شخصيٌ لك أنت؛ يخصّك وحسب.
رائحة الصابون ينبعث من البيوت، والطالبات يمشطن شعورهن المبللة، رائحة الشاي بالنعناع يشربه الآباء على العتبات بسرعةٍ للّحاق بالباص، رائحة الغبار يكنسه عامل النظافة بمكنسةٍ كسولة.
ورائحة في الظُّهر: رائحة الثوم على الباميا من شبابيك الأمهات، أو جارات يغسلن الدرج، رائحة الغسيل المعطر على السطوح .. ورائحة النعاس حين يغفو العجائز والأطفال والقطط على العتبات المشمسة!
لعمان، أيضاً، رائحة في المساء: ياسمينٌ يتثاءب!
***
لعمّان صوت!
تسمعه هناك، وأنت تسكن في الضجيج، يتمتم في أذنيك مثل الأدعية!
صوت كونترول الباص الذي صار رجلاً منذ قليل، أو بائع الخرّوب الذي يعد القروش في جيبه المبلول، صوت بائع البالة المبحوح من قيظ الظهيرة، وصوت مذيع أخبار الثامنة الذي يمنحك إحساساً بأنه استحمّ قبل النشرة مباشرةً!
تظل تستعيد الأصوات في أذنيك مهما ابتعدت.. تلاميذ يتنططون في الطريق الى البيوت، ولد يبدأ رحلة الحب بتنهيدة، صوت أم كلثوم من مطعم سهرانٍ في وسط البلد .. صوت الأذان في قيلولة العصر، ودعاء أم لابنها وهو قاصدٌ وجه الكريم يبحث عن عمل.
لعمان صوتٌ في الليل: حريرٌ يعانق الذاهبين لأشواقهم!
***
لعمان أزرار مثل أي قميص، من إشارات شركة الدخان القديمة، رأس العين، مروراً بسقف السيل، مبنى الأمانة القديم، إلى محطة السكة الحديد في أول طلوع ماركا، تضمّ عمان قميصها في الليل وتفرد ذراعيها لأولادها، ينامون على رضاها؛ شرقاً وغرباً!
***
لعمان عتبة بيت..
فالساهرون في غربها إن وصلوا "العبدلي" أو "دوار عبدالناصر" صار بإمكانهم أن يتصلوا بالبيت ليقولوا: ها نحن وصلنا .. خطوتان فقط.. حتى لو كانوا سكان سحاب!
فالشرقية كلها، على تناقضاتها، بيت، وأهل بيتها يعرفون أسماء بعضهم، ويتبادلون الصباحات من شبابيك الباصات والسيارات أو... وهم يحثّون الخطى على الأرصفة التي صارت تحفظ مشاويرهم .
والعائدون لغربها من شأنٍ كان لهم في شرقها؛ يصيرون في بيتهم بمجرد أن يصلوا "دوار المدينة الرياضية"، فالغربية –أيضاً- بيتٌ، وإن كانت الألفة فيها ضيّعتها قليلاً انشغالات أهلها!
***
لعمان سوق الحمام والحياة تتقافز في أقفاص العصافير، سوق السكّر والرجال الخمسينيين بشيبهم يحملون الأكياس الثقيلة على ظهورهم المحنيّة، شارع الطلياني بالقمصان اللاتينية والاستوائية معلقة مع القبعات والاحذية في أعالي الأرصفة، سوق الذهب والعرائس يتجولن مع العرسان بخفر ووجوه مصبوغة بالخجل يختارون ذهباً قليلاً بحكم الأزمة العالمية وحجم الراتب، بائع الفستق النيجيري الذي ظل يجلس خلف ناره الخفيفة حتى مات، نابليون صاحب المشية المهيبة في شوارعها وعصا المارشالية تحت إبطه،... لعمان أسرار تتقاسمها مع كل ولد!
أولادها الذين كبروا يخبئون أسرارهم تحت حجارتها .. كل ولد له حجره، يخبئ ذكرياته وصباه وضعفه وقوته وأحلامه وأمنياته وحماقاته و... لكل ولدٍ حياة هنا؛ سيعود لها ينفض عنها الغبار ويُغسّلها ويتشممها ويبوسها ويعانقها وهو ينشج من حنين ولكل ولدٍ عمّانه التي لا تشبه عمّان أي أحد!
***
قالت لي كاتبةٌ عربيةٌ مرّة: أحسدك؛ فأنا لي عمٌّ واحد، وأنت لك "عمّان"!
الغد