لا يُنسى ذلك اليوم ابدا ، فقد هجم علينا المستوطنون من كل مكان ، وهم بضع مئات في الخليل ، الرشاشات تدوي ، والرصاص ينهمر ولا تعرف هل يُطلقونه علينا ام حولنا وحوالينا ، ام فوق رؤوسنا ، ولم يبق مستوطن صغير الا وضرب سيارات الوفد بالحجارة والاحذية ، ولم نخرج من الموقع الا بشق الانفس ، وبطريقة تُشبه الهروب في الافلام السينمائية ، حيث لم يوفرنا المستوطنون يومها ، من رشق الحجارة والاحذية حتى خلال مغادرة السيارات بطريقة جنونية ، خوفا من القتل.
قبل ان يخلعنا الامن الفلسطيني ، من اماكن وقوفنا ويرمينا في السيارات خوفا من القتل ، كان عجوز خليلي يبلغ من العمر قرابة تسعين عاما ، يلبس اللباس الفلسطيني التقليدي ويبيع على رصيف شارع الشهداء عدة انواع من البهارات ، وقد اكتسى وجهه بالنور والصبر معا ، فيما لحيته البيضاء تقول لك ان خلف وجهه محاربا يقف هنا عنادا ومعاندة ، وليس من اجل بيع غرامات من البهارات ، شاهدني يومها هلعا ، فقال لي "يا ابني احنا كل يوم على هالحالة ، انتو شو شفتو" قالها والدمع يفيض من عينيه ، وبقي واقفا غير آبه لا بمستوطنين ولا باطلاق رصاص ، ولا برشاشات وحجارة واحذية.
تضم اسرائيل الحرم الابراهيمي الى قائمة التراث اليهودي ، والحرم يسمى حرما من باب المجاز ، واسرائيل تفعل ذلك بعد ان قسمت المسجد الى قسمين ، واحد للمسلمين وواحد لليهود ، وهي تفعل ذلك توطئة لاخذ المسجد كله ، باعتباره يهوديا ، وهي تفعل ذلك كبروفة تمهيدا لما سيجري للمسجد الاقصى ، من مؤامرات تتراوح بين التقسيم او الهدم ، وغير ذلك من مؤامرات يجري رسمها في الظلام.
السؤال الذي يتبدى هو ما الذي سيقدر عليه اهل فلسطين وحدهم في الخليل والضفة والقدس ، من اجل هذه المساجد ، ما الذي سيقدر عليه هؤلاء وسط الخذلان العربي ، ووسط الصمت والسكوت ، وهو سكوت ليس بجديد ، فقد تم حرق المسجد الاقصى سابقا ، ولم يفعل العرب شيئا سوى تأسيس منظمة المؤتمر الاسلامي ، ردا على الحريق ، ورأى العرب بعيونهم هدم مساجد غزة وسكتوا ، وشاهدوا بعيونهم كيف حوّل اليهود مساجد فلسطين المحتلة عام ثمانية واربعين الى اسطبلات خيل ونواد ليلية ، ومشارب خمر ، وسكتوا وكأنهم عُميان خُرسان ، وطُرشان ايضا.
القمة العربية التي سُتعقد في ليبيا مطالبة منذ اليوم بجعل القمة مُخصصة للاقصى وللحرم الابراهيمي ، ليس من اجل بيانات استنكار وتنديد كعادة العرب ، بل من اجل تحديد الموقف بشكل واضح من اسرائيل ، واعلانها عدوة ، والعودة الى اسس الصراع ، والغاء عملية السلام ، والعودة الى كل الخيارات ، التي تحُرر وطنا سليبا ، وهي الخيارات التي نعرفها ، وليس من بينها التنديد ولا التوسل للمجتمع الدولي لوقف اسرائيل عند حدها وحدودها ، بعد ان وصلنا الى مرحلة باتت فيها اهم مساجد المسلمين ، تحت السكين ، فيما الامة تتفرج على المشهد ، ببلاهة ، ولو ان جارك قطف وردة من حديقة بيتك دون ان يستأذنك لقطعت يده ، اما اسرائيل التي تريد قطف روح فلسطين في القدس والخليل ، فلا تجد من يردعها ولا من يقطع يدها.
لم يثبت في تاريخ البشرية ان زال احتلال بغير القوة ، وما دمنا قد تركنا الحل ، وتركنا أعز ما لنا ، ليتم انتهاكه واغتصابه وجلسنا نتفرج ، فان امامنا كثيرا من الهوان على الطريق ، حتى يعود كل شيء الى اساسياته ، واذا كان المرء تعرض الى محاولة قتل فاشلة برفقة اخرين ذات يوم في الخليل ، فان محاولة القتل الكبرى اليوم ، قد لا تفشل ، وسط التعامي الذي نراه بداية بسلطة اوسلو الساكتة ، وصولا الى كل السلطات الاخرى المتربعة في مشرق العرب ومغربهم ، وشمالهم وجنوبهم.
لك الله يا فلسطين ، لك الله وحده ، ولا نامت اعين الجبناء.
mtair@addustour.com.jo