إنتقائية التاريخ وتلقائية المتلقين
د. عادل يعقوب الشمايله
26-07-2020 09:57 AM
التاريخ الذي قرأناه في المدارس، والتاريخ المدون في المراجع التي يرجع اليها الباحثون لا يحتوي على كل ما حدث، ولا على كل الاهم، ولا على كل الاقل اهمية. كما لا يشتمل على كل الاجمل، ولا على كل ما هو اقل جمالا. لا يحتوي التاريخ المدون على كل العدل، ولا على كل الظلم. ولا يسجل كل الانتصارات ولا كل الهزائم، ولا كل المجاعات والمعاناة التي عاناها البشر عبر العصور.
لقد حفظ التاريخ أسماء آلهة الحب وآلهة الرعد وآلهة الجمال وآلهة المطر وآلهة العدل وآلهة الانتقام والتدمير... ولكنه لم يذكر لنا شيئا عن استجاباتهم ولا عن نكساتهم ولا عن خيبات من آمنوا بتلك الالهة وداوموا على الابتهال اليها.
التاريخ يكتبه المنتصر، والمتطفل، والمتخصص، والمتكسبُ المنافق، وطالبوا الشهرة. كثير من التاريخ أُستقي من اشعار من كانوا ينتظرون أمر السلطان: اعطه يا غلام. هذا الواقع لا ينفي أن كثيرا من صفحات التاريخ كتبها منصفون محايدون. فمما لا شك فيه، ان بعض المؤرخين يفلترون ويعقمون، وبعضهم الآخر يلوثون.
تلقائية التلقي فالتصديق فالاعتقاد مكنت وتُمكنُ القيمين على الدين ورجال السياسة من تحويل التاريخ الى علف يُفرغ في المذاود. المصيبة تكمن في أن العلف التاريخي يُبلعُ ولا يُهضم، ويظل في مِعَدِ من بلعوه يجترونه ويشعرهم بالشبع المعرفي ولا يرضون عنه بديلا.
من بلعوا طُعم العلف التاريخي ينقسمون بسببه، ويتلادون بسببه ويتخاصمون ويتمذهبون ويتقاتلون ويستعبد بعضهم بعضا بسببه، لأن التاريخ اصبح صنما. ولا بد لأي صنم ان يكون له عابدين ومسبحين وبخور وقرابين. الاصنام تحتاج الى سدنة وكهنة حتى تُرجى شفاعتها. كهنة وسدنة الاصنام يستخدمون العلف التاريخي الاسطوري لجلب قطعان العابدين المتوقع منهم تقديم البخور والقرابين.
البشر ورثوا حُب الخلود والامتلاك عن أبيهم آدم. آدم خَلُدَ. ولكنه لم يخلد عمرا كما رُغِبَ وحاول. ولكنه خلد بالدرس الذي مثله لمن بعده: "طغيان الرغبة على المهمة". خلد ذكر آدم باستغفاره وخلد مبدأ معاقبة العاصي والمذنب. الشيطانُ أقنعَ آدم بالسعي لِمُلك لا يفنى.
ولا زال الشيطان يُقنعُ من لم يتعلموا من درس آدم ومن دروس التاريخ من بعده، بالسعي لاملاك واموال لا تفنى ولا تأكلها النيران. ومناصب وسيطرة ونفوذ لا يفنى حتى بموتهم فرسخوا مبدأ توريث المناصب. بعض هؤلاء سيجدون أنفسهم مضطرين للبحث عن وربما شراء ما يُخصَفُ لستر عوراتهم التي ستتكشف عاجلا أم آجلا. ولكن الصحراء تُنبت الشوك وليس ورق الجنة، ومن تسطيع شرائهم بمالك غير المشروع لستر عورتك، يستطيع غيرك شرائهم لفضحها. وكما أن الاب آدم قد أُهبِطَ من نعيم الجنة الى شقاء الارض، كذلك، فجزاءُ من وُجِدَ صواع الملك في رحاله فهو جزاءه. ذلك جزاء الظالمين. ولِمنْ يجده حمل بعير من الذكر الحسن في صفحات التاريخ.
قلة من الشعراء يشتهر شعرهم وينتشر، وقلة من المفكرين تصل رسائلهم الى الجمهور المقصود، لأن الكثير من الكتب والمقالات تمنع من النشر أو التسويق. المعلقات السبع ليست هي كل اشعار العرب في الجاهلية، ولم تكن انتاجهم الادبي الوحيد. خُطبُ الجُمع التي القاها الرسول والخلفاء الاربعة من بعده لم يصل جُلها. فقط وصلتنا اخبار تغطي بضع صفحات عن اقوال واعمال عمر بن الخطاب الذي استمر حكمه عشر سنوات. وكذلك بالنسبة لعثمان الذي استمر حكمه اثني عشر عاما. بالمقابل كُتبَ كم كبير متناقض واسطوري وغوغائي ومذهبي عن صراع الكراسي الدموي بين علي وابنائه من جهة ومعاوية ويزيد من جهة اخرى. ضاعت في تناقضات ومذهبيات ما كُتب، الحقيقةُ، وبقي لهيب الفتنة، الذي تزيد وهجه إنتقائية التاريخ الى اليوم، وسيستمر يحرق اصابع المسلمين ويقطع اعناقهم لقرون عديدة قادمة.
عِشقُ عنترة قَطَرَ دما، ولم يكن عنترة الوحيد الذي أحب فتاة من غير طبقته ومن لون معاكس للونه. وعِشقُ قيس قَطَرَ جنونا. أما عشق نزار فقد قَطَرَ قَطْراً ومُجونا، ثم قَطَرَ هَماً وطنيا. فلأي النزارين ينحاز التاريخ؟ ومع أن الشعراء الثلاثة لم ينفردوا بالعشق وآهات العشق وعذاباته، إلا انهم تربعوا على صفحات تاريخ الحب ونُسيت سير الوف غيرهم.
ما يُنشر على الفيس بوك وما يتبادله الناس على الواتسب يُمكنُ وصفه بأنه "ثرثرة تاريخيه". رغم أنه اكثر شمولا للاحداث، واصدق تصويرا لحياة الناس واهتماماتهم ومعاناتهم واشواقهم ولهوهم وجدهم، ولا يخضع لفلترة رسمية. الا ان المُراجع للتاريخ في المستقبل، سيحتاج الى جهد بالغ لغربلة هذه الثرثرة التاريخية من النفاق والغوغائية والتلقائية والسطحية والعصبية والمبالغات. اي لا بد من الانتقاء.
علية القوم على مختلف تصنيفاتهم، يحرصون على ان يظلوا بعد وفاتهم، أحياء في ذاكرة الناس، وفي ما يقال في المجالس، وفي ما يدون المدونون فيما سيصبح تاريخا مكتوبا حتى ولو كان مكذوبا. البسطاء يكتفون بأن يَخلدوا في ذاكرة وروايات ابنائهم لاحفادهم. وفي مدى هذا التناقض تبرز انتقائية التاريخ.
الناس يكتبون تاريخهم الذي يحبون عندما يلتقطون الصور التذكارية اثناء سفراتهم الخارجية وفُسحهم الداخلية. قبل التقاط الصور، يُنتقى المكان والمنظر ليكون جميلا ومعبرا ويستحق التخليد. أما في المناسبات الاجتماعية، فتُلتقطُ الصور ليس مع جميع الحاضرين، وإنما يُنتقى الاشهر رسميا واجتماعيا، والاقرب صلة كأفراد العائلة والاصدقاء. وبالرغم من الحماس والحرص والاجتهاد في اختيار الصورة مكانا ومحتوى، تضيع أو تهمل أو تنسى بعض الصور. وغالبية الناس يحذفون بعد فترة الصور الاقل اهمية وحميمية من بين التي تكدست على هواتفهم. أي أنهم يحذفون أجزاء من تاريخهم الذي اختزنته صورهم. هذا مثال آخر على انتقائية التاريخ.
من المعروف ان ما ينشر على وسائل الاتصال من اخبار سياسية واقتصادية واجتماعية وادبية وفنية، لا يشمل ولا يغطي كافة الاحداث والقضايا التي حدثت خلال ٢٤ ساعه قبل صدورها، ولا جميع الانجازات والنجاحات، ولا جميع الخيبات والعثرات، ولا جميع المقالات التي تسلمتها وسيلة الاتصال، وإنما، ما هو مهم من وجهة نظر رئيس التحرير ومن يومئ لرئيس التحرير. لا تنشر وسائل الاتصال جميع أسماء الموتى، ولا جميع من عقدوا قرانهم، ولا جميع الجاهات، ولا جميع الجرائم ولا جميع المباريات والمبارزات ولا عن جميع الاختراعات. كما انها لا تعلم عما يحاك بليل، الا حين يبوح الليل.
لذلك لا تصدق كل ما تسمع أذناك، ولا تصدق كل ما تقرأ، ولا تصدق كل ما تشاهد عيناك، ولا تصدق رجع يديك إن لمست شيئا. فحواسنا تخدعنا اكثر مما يخدعنا الشيطان. احيانا تحتاج الى مايكرسكوب واحيانا الى تلسكوب لتبصر ما هو موجود فعلا ولكن عيناك لم تدركه. كما أن ليس كل ما يُسمعُ يُفهمُ أو يُحفظ. ما أقصده بالتاريخ يشمل اصناف التاريخ كلها، كالسياسي والادبي والفني والغنائي والمعماري والاجرامي وتاريخ الفساد وتاريخ الاديان وتاريخ الاقتصاد.