تعكس هذه الحوارات التي أجريتها مع نخبة من رموز الفكر العرب على امتداد فترات زمية مختلفة آراؤهم في بعض قضايانا الفكرية الراهنة المتعلقة بالاقتصاد والتاريخ والاجتماع والأدب وقد حرصت أن تكون القضايا المثارة وثيقة الصلة بهموم واقعنا العربي المعاصر وما يواجهه من تحديات تريد النيل من هوية أمتنا وتراثها.
د. صلاح نيازي
شاعر عراقي كبير. عمل رئيساً للقسم الثقافي بإذاعة لندن القسم العربي تتنوع مؤلفاته بين الشعر والترجمة والنقد الأدبي.
معه كان هذا الحوار.
س1: يكثر هذه الأيام الحديث عن "الحداثة" ألا ترون أن فهمنا لهذا المصطلح ما زال قاصراً؟
ج1: "الحداثة" مصطلح أوروبي تماماً لا يمكن تصديره أو استيراده، إذ نقلت هذه الحداثة عن أوروبا ولم تفهم على النحو الصحيح.
الحداثة تعني الابتكار والتجديد.
في أوروبا طوّرت "الحداثة" المفاهيم المتعلقة بالتراث.
(صلاح نيازي)
س2: ما رأيكم بالتفسير الاجتماعي للأدب؟
ج2: التفسير الاجتماعي رافق ظهور النظريات السياسية في علم الاجتماع هناك عشرات من المدارس النقدية كمدرسة" النقد الاجتماعي" و"البنيوي" و"الحداثة" "وما بعدها"، وكلها تحاول إثراء النص.
وعلى كل حال فإن لكل نص أدبي عُمقه الاجتماعي وعمقه السياسي.
س3: يتناول الشعر المعاصر الهموم اليومية للإنسان العربي. ألا ترون أن هذا التناول يتطلب صياغة معينة؟
ج3: أتفق معك. لكن هل شيوع الشيء يدل على أهميته.
هناك شعراء كثيرون يدغدغون عواطف الجماهير فيشبع شعورهم، غير أن مثل هذا الانتشار لا يُشكّل عافية ثقافية.
س4: ما سبب تراجع كثير من المثقفين العرب ومنهم الشعراء عن مواقفهم في هذا العصر؟
ج4: علينا أولاً أن نتساءل. هل كانت المواقف أصيلة وحقيقية أم أنها كانت مدارة لوضع سياسي معين. هؤلاء الذين يتحدث عنهم لم يكونوا أصحاب مواقف حقيقية لذا سرعان ما انفصلوا عن تقدّميتهم. هم لم يكونوا مُنصفين لأصالتهم.
س5: ما المفاهيم الحضارية التي تعوزنا كعرب؟
ج5: من هذه المفاهيم "الكرامة"في أوروبا يعتبرون الموقف "مسألة مبدأ" يتنازلون عن الشيء لأنه "مبدأ". بينما نحن العرب نعزو ذلك إلى "الكرامة" مع الأسف كثيراً ما نتعامل مع مفهوم "الكرامة" تعاملاً ساذجاً، فإذا أنت لم تردّ الزيارة في بيتي عددت ذلك مّسّاً بكرامتي. وهذه ليست مدلولات واقعية.
حوارات مع نخبة من المفكرين العرب
أجراها: يوسف عبدالله محمود
أ. د. شاكر مصطفى
مؤرخ وأديب وباحث سوري. عمل في السلك الدبلوماسي السوري ومن ثم وزيراً للإعلام السوري عام 1965. ثم انتقل إلى الكويت حيث تولى عمادة كلية الآداب في جامعتها.
كما انتدبته الكويت ليشغل منصب الأمين العام المساعد في جامعة الدول العربية في تونس للجنة التخطيط الشامل للثقافة العربية. ثم سُمي مستشاراً في الديوان الأميري الكويتي.
مؤلفاته في التاريخ والثقافة العربية بلغت أربعين مؤلفاً.
تالياً هذا الحوار معه قبل وفاته:
س1: هل ترون أن التاريخ العربي بحاجة إلى قراءة أخرى في ضوء منهجية علمية جديدة؟
ج1: كنت وما أزال أقول بهذه القراءة منذ زمن طويل فالتاريخ العربي واحد من تواريخ مناطق أربع صنعت تاريخ الإنسانية كله: الصين والهند والغرب والعرب.
خمسة أو ستة آلاف سنة من الجهد الإنساني الحضاري الموصول ولا عقد ينتظمه ولا منظور كُلّي يجمعه، ولا فكر شمولي يحتضنه في تكوين واحد ذي معالم وأبعاد ومعنى إنساني كونيّ معاً.
حتى الفترة الإسلامية من هذا التاريخ وهي الأكثر ألقاً وعطاءاً ورعة وشأناً.
(شاكر مصطفى)
والتي نتصور أننا نعرفها أو أننا كتبنا الكثير منها حتى هذه الفترة هي أكثر الفترات التي نجعل ونظلم في تاريخنا الأطول. إننا نحتاج أن نراها بعيون جديدة، بمنظور علمي جديد، بروح من الحب والتقدير جديدة.
س2: ارتبط كثير من مؤرخي العرب وأدبائهم القدامى بالسلطة في عصرهم ارتباطاً جعلهم لا يرون الواقع على حقيقته. ما تعليقكم؟
ج2: الإنسان هو الإنسان، والزُّلفى للأقوى لون من ألوان حب البقاء. والسلطان هالة مغناطيسية آسرة ثالوث الحياة والمال والقوة يجعل منها فلكاً شمسياً تدور فيه الكواكب والتوابع والمذنّبات.
وفي كل زمان ومكان نجد المغني الذي كان صوت سيده، والشاعر الذي يلعق النّعل ليصل إلى الذهب من حوله والكاتب الذي يتملّق البلاد فيقلب جنونه حكمةً وسيفه السّفاح مصباحاً، ويرقص على الجثث وهو ينقر على الدُف: ما أعدله! ما أعدله! ما أعدله!
ومع ذلك وُجد أيضاً في المؤرخين القدامى من قال الحق ودفع ثمنه من دمه، بينما غيره زّوّر الواقع طائعاً أو مُرغماً وهو يقول:
"أباطيل أُنمّقها وأكاذيب أَلَفتها" تماماً كما قال الصابئي وهو يكتب كتاب التّاجي في تاريخ البويهيين.
س3: أنتم من دعاة الوحدة العربية المعروفين. هل يمكن أن تتم هذه الوحدة في ظل الظروف العربية الراهنة؟
(شاكر مصطفى)
ج3: لا تحدثني في الوحدة العربية. إنها جُرحي الناقر نحن نمر منها ومن الحرية معها في السنوات العجاف. كُلّ بقراتنا مقدّسة تُذبح أمام أعيننا كل يوم ولا يرفّ لنا جفن.
ومع ذلك فإن "الأشجار تموت وهي واقفة" وكذلك المبادئ الكبرى تظل وإن جفّت عليها الينابيع واقفة.
نحن نعجب حين نقرأ تاريخ "ملوك الطوائف" في الأندلس، ونبكي "الفردوس المفقود"، ونحن نكرّر المأساة مع ذلك لنطرد من "الفردوس" من أرضنا الفردوسية مرة أخرى.
س4: لكم اهتمام خاص بالتراث العربي. كيف نفهم دور هذا التراث في حياتنا المعاصرة؟
ج4: التراث هو نحن اليوم. إنه ليس الماضي. لكن ما بقي من ذلك الماضي في الحاضر الراهن من فكر وتقاليد وقيم وآثار مادية ومعنوية.
إنه هذه المقوّمات التي تشكل ما نحن ومن نحن التراث هو حيّ فينا وبنا ومن حولنا.
يُقدّم لنا من خلال الآثار المادية (من مخطوطات وعمران وفنون) والمعنوية (من قيم وروح وفكر). أنها طرائق ومناهج وأساليب للتعامل مع الحياة. هذه الطرائق والمناهج والأساليب أعطتنا في الماضي هويتنا الحضارية المميّزة بين الأمم الأخرى. إن الذين ينظرون إلى التراث على أنه حُلول جاهزة للمستقبل يخسرون هذا المستقبل لأنهم يسيرون عكس الزمن والذين يتصورون بناء المستقبل مع إهمال التراث يخسرون أنفسهم لأنهم يبنون على شفا جُرف هار من دون أسس تضرب في الأرض.
حوارات فكرية
(فيصل درّاج)
مفكّر عميق الغور حائز على درجة الدكتوراه في الفلسفة من فرنسا 1974، كان موضوع أطروحته للدكتوراه "الاغتراب والاغتراب الديني عند كارل ماركس".
معه كان هذا الحوار:
س1: كيف تقرأون مقاربة الفكر النهضوي العربي للعقل؟
ج1: إن الفكر النهضوي العربي لم ينشغل بالعقل كما هو، ولم يتأمل العقلانية في أبعادها النظرية، باستثناء طه حسين، بل اقترب منها وهو يسائل مظاهر "التخلف" التي تهيمن على الواقع العربي. ولهذا عُني هذا الفكر بالعقل ولم يتوقف أمام علم اجتماع العقل أي أنه لم يَرَ التحولات الاجتماعية التاريخية التي تفصل بين العقلاني واللاعقلاني، ولم يتوقف من ثم أمام معنى التاريخ الذي يشير إلى الممكن واللاممكن.
س2: في رأيكم كيف يجب أن يقرأ "الحداثة"؟
ج2: الحداثة يجب أن تُقرأ كصراع بين قوى اجتماعية محافظة وأخرى مغايرة لها لا كصراع بين أفراد مُتفرّدين وسلطات اجتماعية قوامها الإجماع والاقتداء.
(فيصل درّاج)
إن تفريغ "الحداثة" من بُعدها الاجتماعي انعكاس لواقع غربي رَثّ إذا صُرف إلى "علم التراث" الذي يوجد بين سلطات سياسية مُخْفقة و"احتجاج اجتماعي" لا يقل عنها إخفاقاً.
إنه التطرّف في البحث عن الانهيار الذي تنتجه السلطة ويعيد انتاجه المجتمع، المجتمع الذي يردّ على السلطات بأدواتها وأفكارها وثقافتها.
س3: من أين تُشتقّ "مواطنة" الإنسان في رأيكم؟
ج3: تُشتق من فضاء اجتماعي ديمقراطي وعقلاني يُؤمّن ازدهار الشخصية الإنسانية وكرامتها وحريتها، حيث الدولة دولة للجميع، وحيث الجميع يتمتعون بتساوي الحقوق والواجبات، وبهذا المعنى فإن المواطنة أي الانتماء إلى الوطن والولاء للمصلحة الوطنية هو تعبير عن ارتقاء أخلاقي وثقافي وقيمي غير مسبوق وتجاوز للعصبيات الضيقة.
س4: ألا ترون أن مفهوم الدولة قد تمّ اختزاله في ظل العولمة إلى دولة سلطة في كثير من البلدان؟
ج4: الدولة مفهوم حديث، وهي لا تقوم بتوحيد المجتمع وهو مفهوم حديث آخر، إلا أنها تُخضع الأفراد لها ولا تخضع للأفراد تجسّده فكرة تساوي الحقوق وتساوي الواجبات، غير أن دولة السلطة وهي تخلق التطرّف وتجسّده تُزيح معايير الدولة حين تشخصين علاقاتها أي حين تجعل بعض الأفراد فوق الدولة ومرجعاً لها.