على شرفات أهدابهم الدامعة، تذوي آمال الشعوب وترتحل، كلّما نزع الزمن لحاءً يابساً لشجرهم الهرم، أعادت الحادثات انتاجه من جديد، وحين يستأنف الدهر رميهم بأرزاء جديدة، تضحي الأفئدة في أغشية من حديد، "لتتكسّر النصال على النصال"!
العرب على وجه التخصيص طيبون جدا، يعشقون التراب والطين والرمل اللاهب، لكنهم يعشقون النسيان أيضا، حيث تختال على أرقهم صروف الدهر وتتناوب نوائبه، وهم إمّا مسترسلون في التغافل أو مذهولون عن الملمّات.
صارت الأندلس ماضيا بعيدا، لا تسمح أعراف الدبلوماسية بذكرها، واختُزلت فلسطين في طريقها للنسيان، بفكرة بائسة، تشظت أحلام النهضة وبُنيت للنسيان رموز يتم استدعاؤها كل فجيعة في مشروع الوحدة.
لقد أضحت مهمة الناس سكب ماء أرواحهم قربانا للهدوء وللخبز ولساعة جميلة وقت الضحى، وهم فوق ذلك لا يَسلَمون.
لا جدوى من التفاصيل. لا غَنَاء من الإيضاح. لقد عبّت الأجيال من كؤوس الضِعَة حدّ الإرتواء، وبات من الجور إسناد الخطيئة على كواهلهم بمعزل عن ما فعله السابقون.
باتوا قلقين إن قال حيّ على النوم، على أحلام الفتية الخافتة وعلى التاريخ الذي يتسرب كالرمل من بين الضلوع، وإذ ينهضوا في رأد الضحى، فهم كسالى تتخطفهم الشوارع والحانات.
في شرق المتوسط وفي غربه، يعجّ ميدان الجهالة والإضطراب والحمق، بافتعال الأزمات واستحداثها. وبينما يسهوا الخلق عن أسبابها، ويتضوّعوا في أتونها، يجد الدهاة وقتاً للعزف على الجراح، ويستعملوا في ذلك، مزيجا مدهشا من غلاة التطرّف ومريدي الإقناع، حتى إذا استوت الفتنة على كرسيّها، أصبحت طريقها للعقول والقلوب محض خالصة وممهدة للفكرة وللمشروع.
الخيل خماص، متعبة تضيق بالسروج. الفرسان ترجلوا، في شرق المتوسط وغربه، عن فكرة التاريخ العَضُد، والماضي التليد، والنمور باتت في شغف للعشب، "نادت الغابات بضراعة، ولكنها كانت نائية." فاستحال السيف لوحة مفاتيح والدرع حظرا.
لا زمن فيه العرب أذلّة أكثر من هذا الزمن. استباح شيلوك حُرمتنا على متن الفُرقة وصهوة القطيعة وظهور الشقاق، أوغل أنيابه في تفاصيل المدن التي كانت تضاء بالمعرفة والترجمة والغزوات.
وبات الناس في سبات، عن الخيل التي تحوف البيوت، وعن الغزاة الذين أسرفوا في القسوة. بدا كما لو كان مخططا بغيضا لمشروع بغيض نشهد حتى اليوم تنفيذا مشبوها لأركانه. لقد بدأ إنفاذه وقتما انحدرت مدن الطوائف في الأندلس في الهوية العربية حتى الحضيض، وقد قامر الولاة بتاريخ عظيم، حيث أُعلن سقوط الدولة الأموية هناك، لتتراجع قيم المجد وتنهار أسباب الحضارة، ولتنشأ كانتونات هزيلة لم تقو على ضربات الفرنجة وقد حسمت قوة الدولة العربية ومجدها العظيم.
هل كان العرب بحاجة لذلك التخاذل ليبدأ مسلسل التنازلات؟ يبدو ذلك جليّا واضحا. استمرأوا الاستعمار بأسماءه البراقة الخادعة، وارتهنت إرادتهم للقوى الغاشمة التي تواظب على سحق المشروع العربي في استرداد شروط النهضة.
اليوم، تنشغل العواصم بحروب قذرة مفتعلة. لا ناقة لأحد من أطرافها ولا جمل، ولن تسفر سوى عن مزيد من الدماء والضحايا، وترسيخ آخر، محكم الخطة والتنفيذ، لاجتثاث الهوية العربية ومحو تاريخها العظيم.
لست وحدي في كل البلاد، من يعسكر الإحباط في فؤاده من نهضة عربية جديدة. وكذا لست وحدي من يملك عنان الأمل، ذاك الذي سيقوده الفتية الطالعون من ألم الجمر وجراح الخيبات، نحو فجر مشرق، ونحو ترياق نافع للخدوش والكدمات التي أدمت وجه مغاني الشِعب، وقد صار الفتى العربي فيها غريب الوجه واليد واللسان، وننشد مع جواهري العرب "
رِدي يا خيولَ اللهِ مَنْهَلَكِ العَذْبا … ويا شرقُ عُدْ للغربِ فاقتَحمِ الغَرْبا
ويا شرقُ هَلْ سَرَّ الطواغيتَ أنَّها … فويقَكَ أشلاءٌ مبعثرةٌ إربا،
فقلتُ : وبعضُ القولِ عُتْبى وبعضُه … عتابٌ ، وشرُّ القولِ عتبٌ بلا عُتَبى...
أساءَت صنيعاً أُمَّةٌ مستكينةٌ … صبورٌ على البلوى إلى أُمَّةٍ غَضْبى.