خلافا لما تتضمنه القيم والعادات ويوصي به الدين والأخلاق والتراث تشهد المجتمعات العربية ممارسات وعلاقات تتعارض مع هذا الارث وتحد من وظيفته في بناء وتوجيه السلوك الانساني والقدرة على الفهم والتنبؤ لما يمكن ان يقوم به الافراد في المواقف المختلفة. في الوقت الذي توجه القيم والاخلاق الناس الى احترام الانسان ومراعاة خصوصيته وتنهى عن التدخل في شؤونه او التجسس عليه نجد الكثير من الممارسات الموجهة نحو رصد وتتبع تفاصيل حياة الغير واختراق خصوصيات الافراد وجمع البيانات وتأليف القصص التي قد تستخدم للإساءة والتشهير والابتزاز.
حالة التناقض بين ما توصي به الثقافة ويقوم به الافراد تستدعي الكثير من البحث وتتطلب المزيد من العمل لجسر الفجوة بين التصورات التي تعكسها القيم والمثل العربية والافعال والممارسات التي يقوم بها الافراد المنتمون لهذه الثقافة. من الناحية النظرية تبدو الثقافة العربية حريصة على حماية خصوصية الافراد وحريصة على ألا يتدخل الآخرون في شؤونهم إلا إذا كان التدخل بغرض الاغاثة والتعاون وفك الكرب. مرارا وتكرارا تؤكد الثقافة العربية على حرمة البيوت وستر العيوب وتحريم الاستغابة وعدم جواز انتهاك الحرمة والخوض في المحرمات ومع ذلك نجد آلاف الشواهد على التعارض بين ما توصي به القيم والأخلاق وبين الممارسات والافعال التي يقوم بها الافراد ويستمتع البعض في اظهار مهارات جمع المعلومات واختلاقها وتسخيرها لأغراض وغايات يصعب حصرها.
حتى اليوم ما تزال المدارس ومؤسسات التنشئة الاجتماعية تبدي حرصها الشديد على حق الانسان في الخصوصية والحرية والكرامة وتجرم التشهير والذم والتحقير والاساءة الى اي فرد. في مختلف الاوساط يجري إعداد وتدريب الافراد على التأدب وتجنب النقد واستخدام اللباقة والمسايرة في التعامل مع الآخرين فمن غير المقبول أن يتدخل الفرد في شؤون الآخرين إلا بالقدر الذي يتطلبه فعل الخير ورفع الأذى ونشر الفضيلة.
الاستغابة او البحث في سِير الآخرين كان سلوكا محرما ثقافيا واجتماعيا مع أن الجميع يمارسه بشغف وشهية. في تسعينيات القرن الماضي ظهر وللمرة الاولى على قناة المستقبل اللبنانية برنامج يجسد الحالة التي يعاني منها المجتمع العربي ويلخصها في عنوان البرنامج “سيرة وانفتحت “ على الاثير العربي المزدحم بالقنوات التي تتنافس على رضا المشاهد المتعطش للبوح والتفاعل ظهر المذيع اللبناني زافين قايومجيان في برنامج يسلط الضوء على الكثير من الجوانب المعتمة في حياة الاسر العربية وعلاقاتها ووضع على شفاه المشاهدين مبررا يريحهم في تجاوز ازمة التناقض بين القيم والسلوك. في عنوان ومحتوى البرنامج وجد المشاهد العربي تبريرا او تأويلا لسلوك الاستغابة فقد كان العنوان يلخص المبررات التي يبحث عنها الناس للاجابة على سؤال مهم يتعلق بأسباب ميلهم للاستغابة والفضول والحديث في المحرمات.
زافين ولهجته اللبنانية واللغة التي لا تلتزم بالقواعد كانت بعضا من الاسباب التي أراحت هواة الاستغابة والنميمة والتجريح فقد قالوا لأنفسهم انهم ما كانوا ليستغيبوا لولا ان الموضوع قد تم تناوله بحضورهم وكما يجري على طاولة برنامج تلفزيون المستقبل.
في بيوتنا ودوائرنا ومؤتمراتنا وضمائرنا نعرف ان المشروع الصهيوني قادم ولن يوقفه الواقع العربي المنشغل في البحث عن انتصارات على الجبهة الليبية او خطابات ابراء الذمة التي يقوم بها الزعماء من وقت لآخر. إدانة الافعال الصهيونية ورفض الاجراءات والاستمرار في اقامة العلاقات والسير في التطبيع لا تختلف كثيرا عن ادانة الوشوشة والاستغابة والفضول لفضا وممارستها سلوكا أقول ذلك بمناسبة أنها “سيرة وانفتحت”
(الغد)